كلما طرح أمامي هذا العنوان "المثقفون والسلطة" تتداعي إلي ذهني مباشرة ثلاثة مشاهد متتالية.. لا أدري لماذا.. ربما لأن هذه المشاهد تعبر بشكل أو بآخر عن العلاقة الشائكة منذ القدم بين الطرفين الأعلي صوتا في المجتمع.. أي مجتمع. المشهد الأول.. مساء 22 أكتوبر 2003 عندما كان وزير الثقافة الأسبق الفنان فاروق حسني واقفا علي خشبة المسرح وسط الأضواء المتلألئة ووسط حاشيته من مثقفي الحظيرة المدجنين اصحاب الحلل اللامعة لتسليم جوائز الدولة في الأدب للفائزين.. وكان علي رأس هؤلاء الفائزين الروائي الرائع ذو القامة العالية صنع الله إبراهيم الذي فاجأ الجميع بقنبلة مدوية لم يتحسب لها أحد من الذين رشحوه والذين منحوه الجائزة وظنوا انه سوف يطير فرحاً بجائزة مبارك أكبر الجوائز وأثقلها حملاً.. ومن المؤكد أن الرجل لم يقبض يده طوال حياته علي عشر معشار المبلغ الذي تشكله الجائزة والذي قد يكون في أمس الحاجة إلي حفنة جنيهات منها. حينما أعطي الميكروفون للأديب النحيل الذي لم يشذب شعره احتفاء بالمناسبة السعيدة.... وطلب إليه أن يتحدث للجمهور ويعبر عن شكره وامتنانه لعطية السلطان انطلقت كلماته كالرصاص. إذ أعلن ببساطة ولكن بقوة وثبات رفضه لجائزة تأتي من نظام فاسد ومستبد وتابع لأمريكا والصهاينة.. وهنا أسقط في يد الوزير الفنان وحاشيته الذين تسمروا في مواقعهم.. وتبللوا.. وراحوا يتلفتون يميناً ويساراً بعيون زائغة ذاهلة كأنهم لا يصدقون اللحظة التي هم فيها والمشهد الذي هم في قلبه. وقد جاء رد الفعل من القاعة المظلمة حيث يجلس مئات المثقفين والأدباء والنقاد سريعاً ومباشراً في صورة تصفيق حاد ومدو وطويل.. وبعد أن التقط مثقفو الحظيرة أنفاسهم وعادت إليهم روحهم.. تفتق ذهن كبير الداهقنة عن مخرج.. فأمسك الميكروفون ووجه عتابه للبطل قائلاً: إذا كنت رافضاً للجائزة من الأساس فلماذا قبلت أن تأتي وتقف علي المسرح لتتسلمها.. للأسف أن تبحث عن "شو" إعلامي واحداث ضجة ليس أكثر.. بدليل أنك قبلت من قبل جائزة العويس. الغريب.. ان الصحف صدرت في اليوم التالي بكلمات قلائل عن مشهد الرفض والتصفيق الحاد وكلمات كثيرة من الكتاب والأدباء والمثقفين الذين يدينون ويرفضون ما فعله صنع الله إبراهيم.. وهؤلاء انفسهم هم الذين صفقوا له بتلقائية في لحظة الرفض لكن حساباتهم تغيرت بعد أن هدأ الحماس وبدأ حساب المكسب والخسارة. المشهد الثاني.. صبيحة يوم الاثنين 29 مايو 1995 عندما وقف الأستاذ الكبير جلال عيسي وكيل نقابة الصحفيين يرحمه الله ليتحدث امام الرئيس السابق حسني مبارك وصفوت الشريف وزير الاعلام آنذاك بمناسبة عيد الاعلاميين في جو ملتهب بسبب المعركة الدائرة بين النقابة من جانب ومجلس الشعب الذي كان قد اصدر للتو قانون الصحافة المعيب المعروف بالقانون 93 من جانب آخر.. في هذا المشهد قال جلال عيسي إن القانون هدية غير مناسبة علي الاطلاق لأصحاب القلم والرأي في عيدهم.. وضجت القاعة بالتصفيق الحاد. واستطرد الرجل المحترم حديثه بمناشدة الرئيس عدم التصديق علي القانون وأن يعيده إلي مجلس الشعب لمزيد من المناقشة حوله من كافة الأطراف المعنية بما يحقق حرية الصحافة ولا ينتقص من الضمانات المكفولة للصحفيين.. ومرة أخري ضجت القاعة بالتصفيق الحاد. لكن الغريب في هذا المشهد الثقافي بامتياز أن مبارك رد علي جلال عيسي بكلمات مقتضبة قال فيها: إيه ياجلال احنا مش بنبيع ترمس.. وضجت القاعة بالتصفيق الحاد.. ثم استكمل: القانون صدر وخلاص.. الصحفيين مش علي راسهم ريشة.. ومرة أخري ضجت القاعة بالتصفيق الحاد. وكلما تحدث صفوت الشريف عن أزهي عصور الديمقراطية تضج القاعة بالتصفيق.. وعندما يتحدث الكاتب المؤرخ في كل عام عن أن مبارك هو باني مصر الحديثة ومحررها مثل أحمس تضج القاعة بالتصفيق.. ولم ينته المشهد إلا بقيام الأديب الكبير ثروت أباظة رحمه الله بإلقاء خطبة عصماء عن بعض الكتابات التي تناولته بالنقد الشديد وتناولت تاريخ والده السياسي.. ثم أكد أن القانون الجديد عادل بل هو أقل من العادل.. وهنا أيضا ضجت القاعة بالتصفيق الحاد. وهذا هو حال المثقفين كما تري.. يصفقون للشيء ونقيضه. المشهد الثالث.. رأيته في فيلم "علي بيه مظهر" ولا يفارقني.. فهناك الطالب المثقف الحقيقي الملتزم الجاد أحمد راتب الذي يري زميله المثقف المزيف السطحي التافه وقد ظهر علي شاشة التليفزيون يشرح كيف سيتم تعمير الصحراء والتنقيب عن البترول فلم يتحمل هذا الهراء الذي جعل المثقف التافه يصل إلي هذه المكانة التي تصورها فشنق نفسه رفضا واعتراضا علي هذه البيئة التي تسمح بصعود التافهين. وكم في حياتنا من مثقفين كبار رفضوا التناقض الذي يعيشه المجتمع.. ورفضوا في ذات الوقت الاستجابة للغواية التي تلاحقهم دائما: غواية الشهرة وغواية المال والنفوذ والسلطة.. وقدموا نماذج رائدة للمثقفين القابضين علي المبادئ.. القابضين علي الجمر.