أليس غريباً أن تري المواطنين العاديين يتزاحمون علي إعلان رغبتهم في الترشح لرئاسة الجمهورية.. وفي الوقت ذاته تري الأحزاب السياسية الكبري تقف عاجزة عن تحديد مرشح لها في هذه الانتخابات التي تتعلق بمنصب رئيس الجمهورية.. أعلي وأرفع منصب تنفيذي في البلاد؟! الرجال والنساء من مختلف الفئات والطبقات والمهن والأعمار يتدفقون علي مقر اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية لسحب أوراق الترشح وفي عيونهم تفاؤل وحماس وجدية.. وقد ارتفع عددهم إلي بضع مئات وربما يصل إلي ألف وأكثر قبل موعد إغلاق باب الترشح.. بينما تقف أحزاب الحرية والعدالة والنور والوفد وغيرها من الأحزاب الممثلة في البرلمان حائرة.. وغير قادرة علي اتخاذ قرار حاسم فيمن ترشح وفيمن تدعم في هذه الانتخابات بالغة الأهمية. وتنقل الصحف كل يوم أخباراً عن خلافات داخلية في تلك الأحزاب حول المرشح الذي ستقف معه بعد أن استبعدت تلك الأحزاب تقديم مرشح من بين صفوفها.. فيما عدا مرشح واحد من حزب واحد.. ولم يعد خافياً علي أحد من المتابعين الصدام القائم بين قيادات الأحزاب وقواعدها التصويتية في هذا الشأن.. القيادات تسير في وادي والقواعد من الشباب والقادة الميدانيين تسير في وادي آخر.. وما بين الواديين هناك حسابات سياسية عسيرة ومرهقة لم يقتنع بها الشباب المتحمس. وإذا كان من الصعب الحكم بأي الرؤيتين أصح.. رؤية القيادات أم رؤية القواعد.. إلا أن عدم التوافق الداخلي في هذه الأحزاب حتي الآن حول مرشحها للرئاسة يعني مباشرة أن القيادات لم تهتم بإجراء حوارات مع الشباب والقادة الميدانيين خلال الفترة السابقة حول معايير الاختيار وضرورات المرحلة والحسابات السياسية العسيرة التي تفرض نفسها علي الجميع. ربما تناست هذه القيادات أن الممارسة السياسية داخل الحزب تختلف تماما عن مفهوم التعامل في إطار الجماعة.. وربما تصورت أن الثقة التي حصلت عليها في الانتخابات الداخلية تعطيها تفويضا شاملا باتخاذ القرار الحكيم والمناسب.. وربما أسقطت من حساباتها أن شباب مصر بعد الثورة يختلف تماماً عنه قبل الثورة.. ولا استثناء لأحد في ذلك.. فالتمرد يشمل الجميع. وحتي داخل الدائرة الضيقة فإن حزبي الحرية والعدالة والنور لم يستطيعا حسم موقفهما إزاء مرشحهما معاً أو مرشح كل منهما في الانتخابات.. وذلك رغم وجود ثلاثة مرشحين إسلاميين في الميدان وأكثر من مرشح ليبرالي.. لكن المعضلة تظل كامنة في عدم التوافق الداخلي علي المعايير والحسابات.. واقتناع القاعدة بما تنطق به القيادات.. وما ينطبق علي الحرية والعدالة ينطبق علي الوفد الذي يتأرجح موقفه كل يوم دون حسم. الغريب في الأمر اننا أمام هذا العجز الحزبي نسمع من يتخوف من ظاهرة كثرة عدد المرشحين ومن يتناولها بالاستهزاء والسخرية.. ومن يعلن بملء فمه أن هذه الظاهرة تمثل إهانة لمنصب رئيس الجمهورية.. خصوصاً عندما يسعي إليه بعض من لا يتمتعون بالمؤهلات المطلوبة في رئيس الجمهورية. لكنني أقرأ الصورة علي نحو مختلف.. فكثرة هؤلاء الراغبين في الترشح وتنوعهم تعني أن الشعب المصري لم يعد ينظر لهذا المنصب الرفيع بالخوف.. ولم يعد يحيطه بالقداسة التي كانت له في الماضي.. فها هو المصري المواطن العادي أياً كانت مهنته يري أنه يستطيع أن يدير شئون البلد ويصلح أحواله بأفضل مما هو عليه الآن. هذا في حد ذاته بُعد مهم نفسيا وسياسيا.. ومكسب رائع من مكاسب الثورة.. فقد سقطت القداسة عن الرئيس ولم يعد إلهاً ولا فرعوناً.. صار مواطنا عاديا يمكن أن تكون أنت ويمكن أن يكون هو.. وهذا المفهوم الجديد علينا لن يجعل أي رئيس قادم يقول كما كان يقول الرئيس السابق إنه لا يجد من يصلح لمنصب نائب رئيس الجمهورية أو أي منصب في البلد. ويبقي أن يترجم الدستور الجديد هذا المفهوم في مواده.. فيسمح بل يفرض التداول علي كرسي الرئاسة.. ويجعل الرئيس مسئولاً أمام البرلمان.. ويضع آلية سلمية وديمقراطية لخلعه إذا تجاوز حدوده واعتدي علي الشرعية.. وبالطبع لابد أن يضع قبل ذلك كله المؤهلات التي تجعل شخصا ما صالحا لأن يكون رئيسا للجمهورية.. والضمانات التي تجعل الشعب يطمئن إلي لياقته عقليا ونفسيا لهذا المنصب الرفيع. علينا ألا نقلق من كثرة عدد الراغبين في الترشح ونوعيتهم وتباين مواقفهم وقدراتهم.. فالناس تريد أن تجرب الديمقراطية في سنتها الأولي وفي أعلي منصب.. لكن بمقدور الذين سيضعون الدستور الجديد أن يضعوا ضوابط محكمة لمن يخوض الانتخابات الرئاسية حتي تأتي هذه الانتخابات بالأفضل.. الذي يعرف والذي يستحق.