أجمل هتاف سمعته في التحرير أثناء مظاهرات الجمعة الماضية كان يقول: "لازم نرجع زي زمان .. إيد واحدة في الميدان". لكن لسوء الحظ لم يصمد هذا الهتاف الوطني طويلا.. فسرعان ما غطت عليه هتافات أخري تعكس حالة الانقسام والانتقام التي تسيطر علي الساحة السياسية هذه الأيام دون أدني أمل في مجرد ترشيدها. ما شاهدناه في ميدان التحرير.. وما نشاهده علي شاشات الفضائيات لا علاقة له البتة بالحوار السياسي ولا بحرية التعبير ولا حتي بالمنافسة الحزبية الشريفة. وإنما له علاقة وثيقة بالرغبة الجامحة في تفتيت الصف الوطني والتحريض والفوضي وممارسة شهوة الانتقام إلي أقصي حد بلا منطق ودون وازع من ضمير. الكذابون والأفاقون وأبواق أمن الدولة المنحل تحولوا بقدرة قادر إلي ثوريين.. بل ثوريين متشددين يعملون علي إثارة الصراعات والنزاعات.. ويقتحمون القضايا الكبري بجهلهم المعهود في محاولة لخلط الأوراق.. والقفز إلي الأمام للهروب من التاريخ السييء الذي يطاردهم. إنهم يسعون إلي غسل أيديهم من النظام الساقط بالمبالغة في المزايدات وادعاء الثورية وركوب الموجة الشبابية علي أمل التغطية علي ما كان.. وهم يراهنون في ذلك علي أن الشعب في معمعة الثورة قد ينسي.. فلا يري فيهم إلا صورتهم الجديدة.. ولا يسمع منهم غير لسانهم الجديد. واليائسون المحبطون ممن كانوا قد جهزوا أنفسهم لاعتلاء عرش الثورة ثم قصرت بهم همتهم عن بلوغ هدفهم وانقطع عليهم الطريق.. هؤلاء لا يرون في مصر اليوم إلا السواد.. فقد عميت عيونهم عن أن تري نقطة ضوء واحدة أو تلمح إنجازا تحقق.. لذلك فهم علي الدوام ناقمون زاعقون.. رافضون لكل الطرق.. ولا هم لهم إلا البحث عن كل ما يثير الشقاق ويدمر الثقة بين المصريين.. ويباعد بينهم وبين التوافق والاتفاق. وقد وصل الأمر بأحد هؤلاء اليائسين إلي الدعوة الصريحة إلي انقلاب علي الشرعية.. عندما اقترح قيام مجلس الشعب بانتخاب رئيس مؤقت للجمهورية ووضع الدستور ثم إجراء انتخابات لمجلس شعب جديد خلال عام.. وخطورة هذا الاقتراح الذي لم يأت عفو الخاطر أنه يمد المرحلة الانتقالية إلي أجل غير مسمي. وبدلاً من انتظار بضعة أشهر لتكتمل مؤسساتنا الديمقراطية يصبح علينا أن نسير علي طريق الشوك من جديد عندما تتحول هذه المؤسسات إلي "مؤقتة" ثم يعاد بناؤها مرة أخري لتصبح دائمة.. فالرئيس مؤقت ومجلس الشعب مؤقت والشوري بالتبعية مؤقت وربما يكون الدستور أيضاً مؤقتاً.. والهدف أن يحترق البلد بمن فيه. والنتيجة الطبيعية للدخول في هذه الدوامة هي السقوط في الفتنة الكبري التي يفتح لها ألف باب.. وساعتها سوف يتنصل صاحبنا من المسئولية.. ويتحول إلي المزايدة من جديد.. وهناك تجارب مشابهة لذلك مرت بنا وتنصل أصحابها من المسئولية.. علي سبيل المثال: * هل هناك من يعترف الآن بأنه هو الذي دعا إلي تنصيب د. عصام شرف رئيساً للوزراء من ميدان التحرير باسم الثورة وباسم الثوار؟! * هل هناك من يجرؤ الآن علي الاعتراف بأنه هو الذي طلب بإلحاح من المجلس العسكري أن يستمر في السلطة عاماً أو عامين ليكون ضامناً لمدنية الدولة وحتي يتمكن شباب الثورة من تشكيل أحزابهم ودخول الانتخابات؟! * هل هناك من يمتلك شجاعة الاعتراف اليوم بأنه هو من أشار علي المجلس العسكري بألا يكتفي بدور "إدارة شئون البلاد" وإنما عليه أن يكون شريكا في الحكم المباشر بأن يضع قواعد اختيار الجمعية التأسيسية للدستور ويشارك في الحوارات السياسية ويدعم وثيقة السلمي ويضع تصورا لمستقبل مصر؟! إن مصر في حاجة اليوم إلي رجال مخلصين.. يؤثرون المصلحة العامة علي مصالحهم الخاصة.. ويجهرون بكلمة الحق التي تبني ولا تهدم.. وتقرب بين فئات الشعب وأحزابه ولا تباعد.. وتوقظ الأمل في النفوس بدلاً من اليأس.. وتدعو إلي الوحدة بدلاً من التفكيك والتخوين والتشكيك.