عندما أذيع بيان تخلي مبارك عن رئاسة الجمهورية في 11 فبراير الماضي كادت رؤوسنا تعانق السماء من الفرحة والفخار.. ليس لسقوط مبارك كشخص.. وانما لسقوط النظام الفرعوني بالكامل.. هذا النظام العتيد الذي بدأ منذ آلاف السنين وتنكر في اشكال متعددة واتخذ اسماء مختلفة لكنه في جوهره كان استبدادياً قمعياً لم يتغير. وعندما نزل ابناؤنا وبناتنا إلي ميدان التحرير والميادين الكبري الاخري لتنظيفها وتجميلها بايديهم كادت رؤوسنا تعانق السماء مرة اخري.. وملؤنا التفاؤل بالمستقبل الرائع الذي ينتظرنا. وعندما اجري اول تعديل دستوري يقلص فترة رئاسة الجمهورية إلي اربع سنوات ويجعل حكم الرئيس مدة واحدة قابلة للتجديد مرة واحدة لا اكثر.. وخرج الشعب في ابهي استفتاء حر نزيه ليقول نعم لالغاء دستور دولة الفرعون تمهيداً لبدء مرحلة جديدة من تاريخنا.. ومرة ثالثة ترتفع رؤوسنا إلي عنان السماء ويملؤنا التفاؤل. لكننا- للاسف- دخلنا بعد ذلك في دوامة الانشقاق والاستقطاب السياسي والطائفي.. فلا تكاد تري اتفاقاً في الافق بين السياسيين والحزبيين.. وصارت الممارسة السياسية لونا من العناد.. وزادت مصيبتنا بالصدامات والاشتباكات التي وقعت في البالون والعباسية وماسبيرو وشارعي محمد محمود ومجلس الوزراء.. واظلمت الدنيا اكثر واكثر بالاحداث الطائفية التي وقعت في اطفيح ومنشية ناصر والعمرانية وابوقرقاص وامبابة وقنا والماريناب. كانت كل حادثة من هذه الحوادث كفيلة بان تردنا إلي الخلف وتصيبنا باليأس والاحباط.. وتجعلنا ننظر إلي انفسنا نظرة سلبية.. وتسرق منا ذلك الفخر بمصريتنا الذي علا بنا إلي السماء. وحتي عندما بدأت الانتخابات البرلمانية تصورنا ان المناسبة سوف تتحول إلي عرس ديمقراطي يجمع شملنا المبعثر.. ويضمد جراحنا النازفة.. لكن الاستقطاب السياسي والطائفي حرمنا من البهجة.. ولم يمنحنا فرصة للفخر بما يجري انجازه علي ارض الواقع.. والسبب حرب داحس والغبراء التي لاتنتهي.. حرب الاسلاميين والعلمانيين والاخوان والليبراليين.. والسلفيين والكتلة. انتخاباتنا الحرة النزيهة تحولت إلي حرب وصراعات.. لاتكاد تفتح صحيفة او قناة فضائية حتي تشعر ان مصر تمزقت.. ولم يعد هناك فرصة بين ابنائها للتلاقي والحوار.. وان اختلفوا فاختلافهم يكون اختلاف السياسيين الناضجين وانما اختلاف شيوخ القبائل. ووسط هذا المناخ العاصف المحبط جاء لقاء الازهر الشريف الذي جمع كل الفرقاء.. ووضع بين ايديهم مباديء الحريات العامة فاعادهم جميعا إلي الروح المصرية الاصيلة.. لا احد يدعي علي احد.. ولا احد يتخوف من احد.. جلسوا معاً في ضيافة شيخ الازهر.. البابا شنودة ود.الجنزوري ورؤساء الاحزاب والمرشحون للرئاسة ومؤسس 6 ابريل ورئيس المجلس الاستشاري. حسناً.. لقد اجتمعوا وتوافقوا علي وثيقة الازهر للحريات العامة التي وصفوها جميعا بأنها وثيقة تاريخية وهدية يقدمها الازهر لمصر.. وقد تضمنت حرية العقيدة وحرية البحث العلمي وحرية الابداع وحرية الرأي والتعبير ومحاربة التطرف في الفكر وحفظ كرامة المواطن وحقه في المساواة الكاملة وتوزيعا عادلا للثروة القومية يضمن الاستقرار الاجتماعي ويحقق السلام بين المواطنين ويقدم نموذجاً منفرداً لدولة حديثة ديمقراطية حرة ناهضة قوية. ومرة أخري ترتفع رءوسنا إلي عنان السماء.. فنحن امام مشهد حضاري يليق بمصر وابنائها.. مشهد يدفعنا إلي الامام ولا يجرنا إلي الخلف.. يأخذنا إلي التفاؤل ويبعدنا عن اليأس والاحباط.. وكم نحن في حاجة إلي ما يحملنا إلي التفاؤل والتوافق الشعبي والسياسي.. ويؤكد لنا ثقتنا في انفسنا.. وفي قدرتنا علي البناء والحوار وليس الهدم والشجار. وقد اشاد كل من شارك في اللقاء بما ورد في الوثيقة.. كما اشاد بها سياسيون وخبراء ومسئولو الكنائس الثلاثة الرئيسية في مصر.. لكنني اتوقف امام تعليق للدكتور عمرو حمزاوي عضو مجلس الشعب الجديد نشرته "اليوم السابع" في عدد الجمعة الماضي بعد ان حضر اللقاء قال فيه: "ان الأزهر بقيادة الشيخ أحمد الطيب يلعب دوراً عظيماً في الوقت الحالي لاستعادة اهداف الثورة وروحها.. وادعو الازهر إلي ان يستمر في هذا الدور العظيم حتي يتم الانتقال السلمي للسلطة وانتخاب الرئيس القادم". يا إلهي.. عمرو حمزاوي الليبرالي العلماني المتشدد يشيد بمؤسسة الأزهر "الدينية" وبرأسها.. ويصف دوره الوطني والسياسي في استعادة اهداف الثورة وروحها بأنه دور عظيم.. بل ويدعو الازهر إلي ان يستمر في هذا الدور "العظيم".. لاشك ان تطوراً كبيراً قد حدث.. وان تغييراً كبيراً قد طرأ علي رؤية الرجل.. وهذا -في رأيي- ثمرة رائعة من ثمار اللقاء والحوار والتعارف. ولو استمر اللقاء والحوار والتعارف بحسن نية فسوف تتغير قناعات الكثيرين من الليبراليين والعلمانيين والاخوان والسلفيين و6 ابريل والعسكريين.. وسوف يقتربون معاً من المنطقة الوسطي.. ويمكن ان يكتشفوا انهم يتحدثون لغة متقاربة ويطرحون أهدافاً متماثلة وان حروبهم كانت حروب مصطلحات قديمة ناتجة عن جهل بعضهم ببعض. فلتكن البداية لقاءات للتعارف.. حتي نعرف كل فصيل مما يقوله عن نفسه لا مما يقوله عنه الآخرون.