بكل المقاييس يجب أن تأتي الانتخابات البرلمانية التي ستبدأ غداً مختلفة تماماً عن جميع الانتخابات التي مرت بنا من قبل.. فهي أول انتخابات تجري بعد الثورة التي انتزعت للمواطن حريته وكرامته.. وجعلت لصوته قيمة.. ومن ثم علي كل الأطراف أن تحافظ علي نزاهة هذه الانتخابات وتحترم إرادة الناخبين. يجب أن تنتهي كافة الصور السلبية التي ألفناها فيما مضي: العنف والبلطجة والرشوة وشراء الأصوات والتلاعب في الصناديق وتسديد البطاقات ومنع الناخبين من الوصول إلي اللجان والشكاوي الكيدية. قلنا ومازلنا نقول إن الشعب المصري نضج بما فيه الكفاية.. ولديه من القدرات والخبرات السياسية ما يجعله مؤهلاً لإنجاز انتخابات جيدة دون وصاية من أحد.. ودون تدخل في إرادته.. وهو يستحق هذه الانتخابات التي هي حق أصيل له وليست منحة ولا منة من أحد. وعلي كل الأحزاب والتيارات والقوي السياسية أن تكون علي مستوي هذا الوعي.. وأن تثق في قدرة الشعب ونضجه.. وأن تكون علي قناعة تامة بأن مستقبل مصر وتقدمها وازدهارها وصلاح أحوالها وحل مشاكلها وعلاج أمراض الفساد والهزال والركود والتفكك والفتن يبدأ من إنجاز انتخابات حرة نزيهة آمنة.. تأتي بنواب يختارهم الشعب فعلاً بكامل إرادته لكي يمثلوه تحت قبة البرلمان.. ويعبروا عنه.. ويدافعوا عن مصالحه.. ويراقبوا الأداء الحكومي مراقبة جادة وفاعلة تحد من الفساد واستغلال النفوذ. اننا ككل شعوب العالم نتوق إلي تجربة انتخابية صادقة وايجابية.. حرة ونزيهة.. ويقيناً ليس فينا عيوب "جينية" أو إصابات فيروسية تحول بيننا وبين إنجاز هذه المهمة الوطنية والسياسية الراقية.. المهم أن تلتزم أجهزة الدولة التي تدير الانتخابات والأحزاب والتيارات التي تشارك فيها بهذا الشوق الجارف الذي يعتمل في صدور الملايين من المصريين لأن يروا وطنهم قد أقدم علي هذه النقلة الحضارية وفق منظومة من التطور الطبيعي الذي يبني ولا يهدم. أضف إلي ذلك أن عيون العالم مركزة علينا هذه الأيام لتري ماذا سنفعل في انتخاباتنا.. هل سنكتفي بشعارات الحرية والنزاهة أم سنطبقها فعلا.. وهل سنكتفي بالديكورات الديمقراطية ونبتعد عن الديمقراطية ذاتها أم سنجعل الانتخابات اسماً علي مسمي.. ولن نفرغها من دورها ومضمونها وجوهرها. ولو تضافرت كل الجهود وارتفعت كل الأطراف إلي درجة الوعي التي تتطلبها اللحظة التاريخية فسوف يكون في قدرتنا أن نضع اسم مصر عالياً ضمن الدول الديمقراطية المحترمة بطريقة سلمية وآمنة.. ونحفظ لهذا الشعب استقراره وسلامته واستقلال إرادته. ولعل نقطة الانطلاق الأولي لتحقيق هذا الهدف الكبير هي أن يحسن المواطنون اختيار نوابهم علي أسس صحيحة.. وأن تنتقل العملية الانتخابية برمتها من دائرة الخدمات والوساطة والانتماء القبلي والعائلي إلي دائرة العمل السياسي.. فيكون الانتخاب علي أساس برنامج سياسي محدد المعالم.. يكشف الهوية والتوجه والإنحياز حتي يعرف الناس والناخبون خصوصا أين سيكون موقع النائب علي الخريطة السياسية.. وعن أي سياسات سيدافع. إننا إذا فعلنا ذلك مثلما تفعل كل الشعوب الديمقراطية الحية.. فسوف تنتهي ظاهرة نائب الخدمات الذي يبني مجده علي التوسط لدي الوزراء والمسئولين لكي يوظف هذا أو يحل مشكلة ذاك.. بينما هو نائم أو غائب أو مغيب في القضايا التشريعية والرقابية الكبري التي يتعلق بها مصير الوطن والمواطنين. لكي نحصل علي حقوقنا في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.. ولكي نحقق أهداف الثورة.. ونحل مشاكل البطالة والأجور والغلاء ونقضي علي الفساد لابد أن ننتخب النائب القوي والحزب القوي.. استناداً إلي مبدء الصلاحية.. فنحن نختار الأصلح.. بعيداً عن الشعارات الرنانة دينية كانت أو طائفية.. وبعيداً عن التعصب.. فالتصويت شهادة.. وكل فرد مسئول عن أداء شهادته وفق ما يمليه عليه ضميره. كلنا في المواطنة سواء.. ونحن نختار نوابنا لكي يمثلونا في أمور تتعلق بالوطن ككل.. وبالشعب ككل.. سواء ما كان مختصاً منها بالتشريع أو بالرقابة علي أداء الحكومة.. وهذان أمران لا يفرقان بين الناس علي أساس الدين أو العرق أو الجنس أو اللون.. وإنما يفرقان بين من يصلح لهذه المهمة الوطنية ومن لا يصلح. والانتخابات الحرة النزيهة هي تلك التي يتمكن كل ناخب فيها من الوصول إلي لجنته الانتخابية في يسر وأمان.. وأن يدلي بصوته في سرية تامة بعيداً عن أي ضغوط.. ويختار من المرشحين من يعبر عنه دون قهر أو إرهاب.. ويختار من يدافع عن موقفه السياسي ومصالحه.. وألا يضار بسبب اختياره ولا يشعر بأنه مدان ومطارد من شخص أو سلطة أو حزب أو تيار. ولا شك أن انضباط العملية الانتخابية من خلال التصويت ببطاقة الرقم القومي سيجعل الناخبين أكثر إقبالاً علي لجان التصويت.. لأنهم سيأخذون المسألة علي محمل الجد.. وسيدركون أن أصواتهم لها قيمة ومن شأنها أن تحدد شخصية النائب الذي سيجلس علي مقعد البرلمان ويعبر عن الأمة.. وتحدد الحزب الذي سيحصل علي الأغلبية ويحكم.. ولذلك يجب أن تتضافر الجهود لتوفير الأمن الكامل في هذه اللجان. بقيت نقطة مهمة طالبنا بها ومازلنا نطالب وهي ضرورة تخفيض سقف الامتيازات التي تمنح لأعضاء مجلس الشعب.. والتي تجعل من المقعد البرلماني مطمعاً لمن يبحثون عن النفوذ والحصانة والسلطة والمال وليس لمن يريدون المساهمة في بناء الوطن والقيام بالدور الصحيح والمرسوم في الدستور للسلطة التشريعية.. وهو دور مهم جداً ومرهق جداً لمن يأخذه علي أنه تكليف وليس تشريفاً.. ولمن يأخذه علي أنه رسالة وليس وجاهة.