جذبتني الفكرة من عنوانها .. فقرأت التحقيق الصحفي المنشور عنها في جريدة "الشرق الأوسط" اللندنية من سطره الأول إلي سطره الأخير.. وشعرت بغيرة مهنية حقيقية من الصحيفة التي تناولت الموضوع قبل أن تتنبه إليه أي من صحفنا المصرية. التحقيق الصحفي كتبته الزميلة لبني عبدالسميع في عدد "الشرق الأوسط" يوم 14 سبتمبر الماضي.. ويتحدث عن مشروع ثقافي صغير أقامته خمس فتيات بالجهود الذاتية في أحد الشوارع الجانبية بمدينة نصر.. هذا المشروع أطلق عليه اسم "بيكيا" التي تعني اختصار كلمة "روبابيكيا".. وتشير إلي الأشياء القديمة والمستعملة.. والمشروع عبارة عن مقهي ثقافي صغير يوفر الكتب القديمة للرواد ليطلعوا عليها أو يشتروها.. ويوفر أيضا الكتب الجديدة.. ويقدم خدمة الانترنت.. إلي جانب بعض المشروبات المميزة. إلي هنا والمشروع يبدو نسخة مطورة من سور الأزبكية الشهير.. لكن الفتيات أضفن اليه عناصر الجذب والتشجيع للشباب.. فهناك مسابقات في الهوايات كالرسم والعزف وهناك ورش للكتابة.. وكثير من الأنشطة والحفلات التي ينظمها المكان ويستضيفها مجانا.. منها حفلات موسيقية للفرق الشبابية الموهوبة والجديدة.. وحفلات للتخت الشرقي.. وعروض أفلام.. وعروض كتب وحفلات توقيع لبعض الكتب.. وندوات سياسية. وعلي هذا النحو تتكامل الأنشطة الترفيهية والتثقيفية كل شهر.. ومن ثم لم تعد "بيكيا" مجرد كافيه أو مكتبة للكتب المستعملة وانما بذرة لصرح ثقافي كبير ربما ينافس ساقية الصاوي في يوم ما. الفتيات الخمس في بداية العشرينات من العمر.. وهن نموذج للجيل الجديد الذي يفكر ويبتكر وينفذ ويحقق نجاحاً جماعياً.. فقد جمعهن معا حب القراءة علي ما بينهن من اختلاف في الرأي والرؤي.. وكانت نقطة البداية هي النجاح في تقسيم الأدوار بينهن: رنا الفرماوي مسئولة العلاقات العامة.. وريم خميس مسئولة عن الكتب الانجليزية.. ونانسي هادي مسئولة عن الكتب العربية.. وسارة بوكتر مسئولة عن قائمة المشروبات والطعام.. ويارا طه مسئولة التمويل. تم الاتفاق علي الفكرة في رمضان قبل الماضي لكن التنفيذ تأجل حتي مارس الماضي.. حيث تم شراء العديد من الكتب القديمة والنادرة من سور الأزبكية.. كما قدمت كل فتاة ما لديها من كتب مستعملة في المنزل.. وكان الهدف هو توفير مكان للشباب يلبي احتياجاتهم ويشجعهم علي القراءة.. يستطيعون فيه الجلوس باسترخاء وتناول مشروب بسعر معقول وقراءة كتاب.. أو انهاء بعض الأعمال عن طريق توفير خدمة الانترنت مجانا.. وقد وجدت الفكرة اقبالا من الشباب فوق المتوقع. يقول التحقيق الصحفي: "بمجرد أن تدخل بيكيا ستجد الكتب في كل مكان.. فواجهة الكافيه زجاجية ومرصوص بها الكتب بشكل جذاب.. وعندما تجلس ستجد الكتب تحوطك من كل اتجاه.. فوق الأرفف.. وعلي ظهر الأريكة.. وعلي المنضدة وأسفلها.. وبالتالي فلابد أن يلفت نظرك أحد هذه الكتب.. وستجد يدك تمتد بتلقائية لتسحب أحدها وتستغرق في القراءة في جو مريح وحميمي.. كأنك تجلس في غرفة معيشة منزلك.. واللافت للنظر أيضا وجود بعض الكتب والمجلات موضوعة بشكل عشوائي داخل سلال من الخوص لتستمع بالبحث والتنقيب داخل هذه السلال عن كتابك المفضل. في "بيكيا" ستجد تشكيلة كبيرة من الكتب الانجليزية والعربية.. هناك كتب أدب وسياسة وتاريخ وكتب دينية وكتب فنون وأشعار وروايات.. وكلها مستعملة بالطبع لكنها تبدو مثل الجديدة.. وهذه الكتب متاحة للتصفح داخل الكافيه مجانا أو للبيع بأسعار زهيدة لمن يرغب. ولأن الفكرة جريئة.. أو قل مجنونة.. فإن "بيكيا" تشتري ما لديك من كتب وتبيع لك.. أو تستعير منك كتبك لفترة محددة وتعيدها إليك.. أو تأخذ منك كتبك علي سبيل التبرع وتكتب عليها اسمك.. واذا أردت أن تعيد اليها الكتاب الذي اشتريته منها فلا بأس أن تشتريه بسعر جديد حسب حالة الكتاب.. فالهدف ليس الربح وانما جعل الشباب يحبون القراءة ويقبلون عليها. وتضم بيكيا تشكيلة من الكتب الجديدة مثل كتاب الدكتور محمد البرادعي "عصر الخداع" وكتبا للمواهب الشابة التي تخطو أولي خطواتها في عالم الكتابة. وهناك هدف آخر تقدمه بيكيا للشباب وهو التعارف والمشاركة وتبادل الخبرات.. فصغر حجم الكافيه يعطي فرصة لتكوين صداقات جديدة والخروج من أزمات الانغلاق علي الذات. هل أدركت الآن سر انجذابي إلي حكاية "بيكيا" المجنونة.. وسر حماسي للمشروع واعجابي بالفتيات الخمسة؟! انه نفس السر الذي دفعني إلي كتابة عمود مشابه لهذا العمود منذ سنوات طوال أعبر فيه عن انبهاري بمشروع "ساقية الصاوي" عندما بدأت نشاطها في أيامها الأولي. أكثر الله من مشاريعنا الثقافية الخاصة التي تحقق بملاليم نجاحا يفوق مشاريع وزارة الثقافة التي تنفق الملايين. بلا مردود.