الحفل الذي احياه اوركسترا "وارسو" السيمفوني في قصر الفنون الجميلة بمدينة بروكسل في اطار الاحتفالات بدولة بولندا لترأسها هذا العام الاتحاد الاوربي يعد من أهم الحفلات العالمية ليس لأن هذا الفريق من أهم فرق أوربا الآن في المهارة والإتقان والرصيد الفني "ريبرتوار" ولكن لأن الذي قاده هو المؤلف البولندي "كريستوف بيندريسكي" الذي يعد من أهم مؤلفي النصف الثاني من القرن العشرين علي المستوي العالمي. قصر الفنون الجميلة يطلق عليه لفظ بوزار Bozar ويعد اول مكان في العالم يجمع بين قاعات للحفلات الموسيقية والمسارح ودور السينما والمطاعم والمخابز وتم بناؤه ما بين اعوام 1922 1929 وتم تجديده عام 1996 بما يلائم تكنولوجيا العصر الحديث ويلعب الآن دورا كبيرا في استضافة العديد من المعارض والحفلات الفنية .. أوركسترا "وارسو" تم تأسيسه عام 1984 علي يد يهودي مانوين وقائده الاساسي حاليا "مارميكوفسكي" ويعد من اشهر قادة العالم. أما "بيندريسكي" من مواليد 1933 وبدأ الاهتمام الدولي به عام 1960 حين قدم مقطوعة لضحايا هيروشيما اتضح من خلالها عبقريته الموسيقية وتجديده وبصمته الشخصية ومنذ ذلك الحين توالت اعماله الغزيرة حيث ابدع 4 أوبرات و8 سمفونيات وكونشرتات مختلفة ومقطوعات كورالية متنوعة.. في الخمسينيات والستينات اشتهر بالتجريب في الموسيقي ولكن في السبعينيات بدأ يعود الي استخدام أنماط تقليدية أي اصبح محافظا بعد مرحلة التجريب ولكن يري النقاد الان انه في مرحلته الحالية يجمع بين الجديد والقديم في أسلوب مبتكر يخصه وحده .. وعموما اعماله تمثل اضافة للموسيقي العالمية. التحولات تضمن برنامج الحفل الذي قاده هذا المبدع فاصلين الاول قدم فيه من مؤلفاته كونشرتو الكمان الثاني اما في الجزء الثاني من الحفل قدم السيمفونية السابعة لبيتهوفن.. وهذا الكونشرتو ألفه خصيصا لعازفه الكمان الالمانية المشهورة "آن صوفي ميوتر" والتي اشتهرت بعزف الموسيقي المعاصرة لولفي القرن العشرين والذي معظمهم اهدوا لها اعمال خاصة وقد رأي هذا العمل النور علي يديها عام 1995 في مدينة "ليبزج" بألمانيا ثم قامت بتسجيله تحت قيادة "بيندريسكي" أما هذا الحفل العزف المنفرد علي الكمان فيه كان من نصيب العازف "جيوليان راخلين" والذي ايضا يعد من امهر العازفين في الساحة العالمية الآن وقد اشتهر بعزفه المشترك مع عازف التشيللو الشهير "روستورفيتش" في العرض الاول لمقطوعة "السداسية" لبيندريسكي .. جوليان من "ليتوانيا" وتلقي تعليمه بالنمسا. وصف الحفل وقبل ان يستغرقنا الحديث عن أداء الكونشرتو دعوني اصف لكم ذا الحفل الذي شهد اقبالا جماهريا حيث كان يضم عددا من النقاد المتخصصين الذي تم دعوتهم اليه وايضا بعض الضيوف الذي ليس لهم باع في الموسيقي وانما جاءوا لمشاهدة " بيندريسكي" كأحد أعلام هذا القرن ولكن كان هناك الكثير من عشاق الموسيقي الذين حجزوا مقاعدهم منذ عدة شهور. في البداية دخل الفريق واحتل العازفون مقاعدهم علي المسرح وسط التصفيق المعتاد من الجمهور ثم دخل عازف الكمان "السوليست" وخلفه مباشرة بيندرسكي ليشتد التصفيق وبعد تحيته للجماهير استدار ليبدأ القيادة ولكن المفاجأة بدون عصا القائد ولكن مستخدما يداه فقط ومعتمدا احيانا علي اصبع السبابة .. والكونشرتو هنا ليس بالشكل التقليدي لهذه الصيغة بل لم يأخذ منه إلا الإطار الخارجي "العازف المنفرد مقابل الأوركسترا" ونجد بناء العمل يقوم علي 6 اجزاء داخلية متتابعة يتم عزفهم بدون توقف وتمثل صراع الانسان والمجتمع. عندما يقود العمل الموسيقيالذي أبدعه لا يكون هناك مجال لتقييم الاداء وانما فقط القاء الضوء عليه.. هذا الكونشرتو يسمي "تحويلات" وجاء كأنه تنويعات سيمفونية علي لحن منفرد وهو من الأعمال الطويلة حيث يستغرق عزفه حوالي 50 دقيقة يبدأ بعدة الحان رئيسية تظهر عدة مرات طوال العمل مره بشكل سافر واحيانا بشيء من الغموض والعلاقة بين الأوركسترا والعازف المنفرد تتنوع خلال العمل كله أحيانا الكمان يعزف مع الأوركسترا بنغمات قوية ثم يحاول ان يهرب عن طريق العزف بالنبر علي الأوتار ثم يعود ليؤكد صموده امام الفريق ويبدأ في صراع درامي مع الأوركسترا الذي يحاول أن يسيطر علي الكمان مرة أخري لكنها تقاومه وكأنها هي الفرد الذي يبحث لنفسه عن مكانا في المجتمع ونغمات بيندريسكي اللحنية تتجلي في اواخر العمل حينما يتحول الكمان الي عالم سماوي عن طريق استخدام النوت العالية ولكن بإمددات نغمية خافتة. الاداء متميز لأن اوركسترا "وارسو" يؤدي دائما مؤلفات بيندرسكي الذي هو ايضا قاده كثيرا وكما سبق أن ذكرنا العازف السوليست ليس غريبا علي مؤلفات بندريسكي والعمل من الاعمال الصعبة جدا ويحتاج الي مهارة فائقة في العزف حيث به فقرات عزف منفرد كثيرة بها تحويلات وتنقلات تستلزم تكنيك وتقنية خاصة اكسبته شهرة في تاريخ الموسيقي ووضعته في مكانه كبيرة في ريبرتوار هذه الآلة .. العمل به بعض اصدء موسيقي المؤلفين القوميين في أوربا الشرقية امثال بارتوك وبروكفيف وبريتن ولكن نجد هناك سمات خاصة لبيندريسكي في التناول خاصة في صياغة الوتريات تتجلي في هذا العمل ذات الروح السلافية ثراء وحزن وقتامة وغنائية تناسب آلة الكمان .. والعازف السوليست هنا أدي أداء ممتاز او حاز علي إعجاب المؤلف الذي صفق له ثم خرج من المسرح ليعود ليتلقي تصفيقا حار اوفي حركة جيدة منه يمسك بالمدونة الموسيقية الخاصة بالمايسترو وأشار لها أي التصفيق من حق بيندريسكي المبدع. "رؤية" في الفاصل الثاني من الحفل قدم بيندريسكي السيمفونية السابعة لبيتهوفن وهي من أعماله الشهيرة وتقدم في مصر كثيرا ولكن من الملاحظات أنه أدي الحركة الثانية بشكل اسرع مما تعودناه أما الحركة الرابعة فجاءت براقة وحيوية ونجده سعي لإظهار ذلك لدرجة أنه جعل عازف الكلارنيت يعزف عليه بشكل أفقي أي جعل أسفل الآلة في مواجهة الجمهور فأعطي وضوح شديد للصوت زاد السيمفونية جمالا.. هذه الملحوظات تؤكد أنه له رؤية وتفسير فيما يقدمه من مؤلفات غيره.. الختام استطاع بيندريسكي ان يقدم ختاما قويا شعر به الجمهور فأنطلقت صيحات الإعجاب مصاحبة للتصفيق الحار.. وتحية لهذا الجمهور قدم مقطوعة من خارج البرنامج عزفها مجموعة الوتريات وهي من مؤلفاته الشهيرة وعنوانها "شاكون" وهي حركة أخيرة اضيفت للقداس البولندي الذي ألفه في الثمانينيات وأهداه لشهداء بولندا وهذه الحركة صاغها عام 2005 في رثاء البابا يوحنا بولس الثاني والعمل مدته 7 دقائق ظل الجمهور صامتا لينفجر بعد انتهاء العزف في تصفيق حار ووقف جميع العازفين ليتبادلوا التحية مع الجمهور وتختتم هذه الليلة الرائعة التي جعلتني اتذكر المؤلفين الموسيقيين في مصر وكيف يعانون ولا ينظر اليهم كأحد رموز النهضة الحضارية مثل عاصمة الإتحاد الأوروبي التي أرادت أن تكرم بولندا فأستضافت المؤلف الموسيقي المبدع فيها كدليل علي حضارتها...