من الذي منح شخصية "أبوالعلاء البشري" في المسلسل الذي يحمل اسمه ذلك الوهج الذي استمر أكثر من ثلاثين عاماً منذ أن خرج هذا المسلسل الرائع إلي جماهير التليفزيون المصري عام 1986؟؟ ومن أعطي رحلته الفريدة التي بدأها بعد خروجه علي المعاش حين قرر أن ينبذ العزلة ويعيش حياته وسط الأهل والناس حاملاً المبادئ متسلحاً بالأخلاق الطيبة مصراً علي الانتصار للخير مهما كانت الشرور المسيطرة علي البشر؟؟ ثم من أعطي هذه "الرجل" هذا الزخم الشعوري الأخلاقي ومنح العمل سمة الخلود كواحد من أفضل الأعمال الدرامية التي أنتجتها الدولة من خلال مؤسساتها التي كانت حية وناشطة وقتئذ؟؟ المسلسل الرائع الذي أعيد بثه هذه الأيام يكشف كيف انحدرت صناعة الدراما المصرية ووصلت إلي مستويات منذرة ومهددة لسلامة المجتمع أخلاقياً وإنسانياً واجتماعياً. أتُري هل هو المؤلف المبدع الذي استلهم روح شخصية أبوالعلا المصري من تلك الشخصية؟ التي أبدعها الروائي الاسباني سرفانيتس. أعني شخصية دون كيشوت "1605" التي مر علي ظهورها في الرواية التي تحمل اسمه عدة قرون. أم أنه الممثل العتيد والمبدع ايضا الذي جسدها ببراعة واجلس المتفرجين مبهورين يتابعون رحلته المهنية أثناء صراعه من أجل نشر الخير والجمال في واقع عملي نفعي غابت عنه العدالة وتراجعت المبادئ الإنسانية؟ أم تراه المخرج الحساس الذي تحمس للرواية وأحب الشخصية فمنحها هذا الحضور والروعة والبهاء. الإجابة البديهية أن الثلاثة أسامة أنور عكاشة ومحمود مرسي ومحمد فاضل هم صناع هذا العمل الخالد. ويقول آخر هو التكامل الفني الجمالي والحرفي مع الإبداع الأصيل الذي جعل مثل هذا العمل يستحوذ علي اهتمام المشاهدين برغم مرور السنين وتعاقب الأجيال. وأنا أشاهد الحلقة الأخيرة من الجزء الثاني لمسلسل أبوالعلا البشري الذي أعادت عرضه مشكوراً قناة(DMC) غلبني التأثر جداً وانفعلت فعلاً أمام دموع محمود مرسي الممثل العملاق بعد أن أودع داخل مصحة عقلية وهو العاقل الأمين ذلك الأمر الذي أصاب من عرفوه بالصدمة والوجع وأصابني بالفزع من المصير الذي ربما واجه كثيرين مثل "أبوالعلا". فهل ينجح الشخص الذي يصارع من أجل الخير ويتصدي للفساد وسط هذا المحيط الهادر من الانحطاط وفساد الذمم والأنانية المفرطة. لقد تجاوز الفساد حدود الركب.. وكاد يصل إلي قمة الرأس وبالفعل أغرق شخصية مثل "أبوالعلا" في أحزانه! إن الرحلة لم تنته لأنها رحلة أزلية والصراع بين الخير والشر ممتد ونراه ونلمسه ونخوضه أحياناً رغماً عنا. لقد بحثت عن ردود أفعال المتفرجين وقت عرض الجزء الأول من هذا المسلسل فقرأت الآتي لواحد لم يذكر اسمه علي التعليق الذي كتبه والذي يعبر عن مدي إعجابه بالمسلسل. إنه عمل عملاق وسيظل محفوراً في ذاكرتي. وقد حالفني الحظ وشاهدته في بداية عرضه وبرغم صغر سني تأثرت به جداً. التمثيل مذهل ورفيع المستوي جداً والمسلسل يعتبر أهم عمل ناقش قضية الأخلاق والفضيلة ورغم إنتاجه البسيط يعتبر عملاً دسماً للغاية في القصة والسيناريو والحوار الأقرب إلي الشعر بالإضافة إلي الفنانين العمالقة الذي قاموا بأدائه. إنه عمل بناء ومربي للعقول ويعتبر استثناء في تاريخ الدراما العربية. أسامة أنور عكاشة قدم للمواطن المصري خصوصاً والعربي عموماً أفضل مما قدمته المؤسسات التعليمية في مجال التربية وتهذيب العقول وإعلاء الفكر! تري ماذا لو خرج من بيننا الآن أبوالعلاء البشري وحاول أن يجرب ما فشل فيه هل سيكتفي أصحاب السلطة بوضعه في مصحة أم سيقتل علي الفور؟!