إذن لقد قتل القذافي.. ما أغني عنه ماله وما كسب.. وما أغنت عنه الحشود التي كانت تصفق وتهتف له.. وما أغني عنه المنافقون والكذابون الذين زينوا له أباطيله وامتدحوا شطحاته الجاهلة.. وجعلوا منه مفكراً وكاتباً ورجل دولة بينما هو في الحقيقة لص عتيد. وشاء لنا العلي القدير جل شأنه أن نري مصارع الطغاة واحداً تلو الآخر.. منهم من أعدم ومنهم من قتل ومنهم من ينتظر.. أولئك الذين أذلوا شعوبهم وقهروهم بالحديد والنار.. وأفسدوا بلادهم.. ونهبوا خيراتها.. وظنوا أنهم قادرون عليها.. ونصبوا أنفسهم آلهة في الأرض. لقد طويت صفحة القذافي للأبد بمقتله ومقتل أبنائه الذين غرتهم الدنيا بزخارفها وغرهم بالله الغرور.. بالضبط مثلما حدث مع الطاغية الأول صدام حسين الذي أعدم وقتل ولداه.. ولم يبق من نسله غير رغد التي تعيش في الأردن.. التي ستسير علي دربها عائشة القذافي التي تعيش في الجزائر. هذا هو حصاد الدم ونهاية الطغيان.. وبقيت العبرة لمن يعتبر.. فلا المال ولا السلطان ولا الجاه يمكن أن يغني عن الطاغين شيئاً إذا ما حلت بهم نقمة الله ونقمة الشعوب. الليبيون يحتفلون بانتصارهم وتطهير بلادهم من فيروس الجهل والاستبداد وهذا حقهم.. لكنك لو نظرت إلي الجانب الآخر في القصة ستجد أننا أمام مأساة حقيقية في أمة لا تعرف التغيير السلمي ولا ما تفاهم عليه العالم المتحضر من أساليب ووسائل ديمقراطية للإصلاح وتداول السلطة. مازال التغيير عندنا يمر ولابد أن يمر عبر الثورة والدم وضرب المدن والقري.. وتدمير المنشآت الحيوية.. لنبدأ دائماً عهداً جديداً وتجربة جديدة.. من نقطة الصفر. ماذا يمكن أن نقول في هذه المناسبة لأولئك الذين مازالوا يصرون علي تحدي إرادة شعوبهم.. الذين مازالوا يتمسكون بالكراسي.. ويطلقون جيوشهم علي المتظاهرين الغاضبين العزل من السلاح؟! وماذا يمكن أن يقولوا هم لأنفسهم وهم يشاهدون جثة القذافي وجثة وزير دفاعه وجثث بعض أبنائه وأعوانه؟! والله لا شيء في الدنيا وزخارفها يوازي هذه الميتة البشعة.. ولا يوازي هذا العار الذي يجلل من كانوا بالأمس القريب فوق الرءوس.. ولا شيء في الدنيا يساوي طلقة غادرة تقتل متظاهراً سلمياً بعد أن ثبت أن دم المتظاهرين يتحول شيئاً فشيئاً إلي شلالات هادرة تزلزل العروش وتقض المضاجع.. ومن قتل يقتل ولو بعد حين. إن عدل الله أسمي من كل عدل.. وقصاص الله آت لا ريب فيه.. فهل يتعظ الجبناء؟! وهل تصل الرسالة إلي الذين يأمرون الجنود باطلاق الرصاص؟!.. وهل تصل الرسالة إلي الجنود أنفسهم الذين لا يدركون خطورة ما يفعلون وإلا ما رضوا أن يكونوا سوطاً في يد الطغاة علي إخوانهم المدنيين المسالمين؟! لقد حكم القذافي ليبيا: أكثر من 42 عاماً.. وظل يقاتل هو وأبناؤه بكل ضراوة من أجل الاستمرار في الحكم لأكثر من 8 أشهر.. حتي كانت هذه النهاية المأساوية.. فهل من مدكر؟! واليوم تخرج ليبيا من المحنة الطويلة وهي منهكة ومثقلة بالجروح والديون والمدن المدمرة والسكان الذين هجروا بيوتهم والمرافق العامة المتضررة.. ناهيك عن حقول البترول التي لا تنتج والتي تم تخريبها عمداً.. والاستحقاقات الرهيبة المنتظرة لدول حلف الأطلنطي التي ساندت الثورة وتريد نصيبها من الكعكة.. وهذا كله يمثل عبئاً كبيراً علي ليبيا الجديدة.. ليبيا المستقبل. وهناك من يقول الآن في ليبيا إن النصر الذي تحقق جاء فاقداً لذلك البريق الذي كان ينتظره الشعب ويأمل به قادة المجلس الانتقالي.. وحين رفعت أعلام ليبيا الجديدة في مسقط رأس القذافي وفي الساحات الكبري كانت سرت مدينة أخري غير التي كانت عليها قبل بدء العمليات العسكرية. وهكذا خربها القذافي حياً وميتاً.. وترك ليبيا ريشة في مهب الريح.. كما هو الحال في كل الدول التي جلس علي عروشها ديكتاتوريون ومستبدون لا يرون إلا أنفسهم.. ولا يعملون إلا لصالحهم وصالح أسرهم الصغيرة.. ويفرطون في الأمانة التي في أعناقهم. لن يكون من السهل إعادة تعمير ليبيا.. وإعادة تأهيل مرافقها واستثمار ثرواتها.. ولن يكون من السهل تضميد جراحها والانتقال لعهد آخر تم تأجيل رسم ملامحه حتي تنتهي المعارك ويتم تحرير كامل التراب الليبي من القذافي في وذيوله. والرهان اليوم ينحصر في قدرة الثوار الليبيين علي صياغة مستقبل أفضل لبلادهم.. مستقبل يقوم علي الوحدة والتفاهم والتعددية السياسية وقبول الآخر واحترام حقوق الإنسان حتي لا يأتي يوم آخر يحن فيه الناس إلي عهد الظلم والاستبداد وجنون القذافي.