لاأذكر القائل إن الفنان يختزن من الرؤية والتجربة في خمس دقائق. مايستغرق من الشخص العادي سنة كاملة.. الفنان الحقيقي يستطيع أن يصنع من العادي والمألوف عملاً فنياً لافتاً. بينما يعبر الآخرون ما جذب انتباه الفنان. فحوله إلي عمل إبداعي. والأمثلة تتعدد في آلاف الأعمال التي أجادت الرؤية والتقاط المواقف العابرة والجزئيات والومضات التي لانلحظها أو تلفت تأملنا. لكن الفنان يعيد صياغتها في إبداع جميل. في حياتنا اليومية ملايين يعبرون الطريق. يضعون الأثقال علي أكتافهم ورءوسهم. ويمسكون بأيديهم ما لا يلفت نظر الجماعة. وإن لفت نظري - دوماً - هؤلاء القادمات من عمق القري. ورءوسهن ثابتة تحت ما يحملن من أشياء تعلو بما يدعو إلي عدم التصديق. أو خوف التعثر. أو الإشفاق! عين الفنان تلتقط مشهد الخادمة الصغيرة. تعبر الطريق. وهي تحمل صينية البطاطس فوق جسدها الضئيل. وساقيها النحيلتين. بل وكانت أحد عوامل الشهرة التي وضعت إدريس في الصف الأول بين كتاب القصة القصيرة في العالم. وفي قصة"الطفل" لألبرتو مورافيا يسأل موظف التعداد سيدة البيت:لماذا تكثرون من الإنجاب؟ قالت السيدة في قلة حيلة: بيوتنا خالية من الكهرباء. ولأننا فقراء فإننا ننام مبكراً. وهكذا ننجب الأطفال! التقط يوسف إدريس المعني. ولعله توارد خواطر. فكتب رائعته "أرخص ليالي" عن الفلاح الذي يعاني الفقر والسأم والملل في ليل القرية الغطيس. وحينما افتقد من يستضيفه. أو يجالسه. فقد عاد إلي البيت. وأجبرتها الظلمة علي التمدد إلي جانب زوجته. وتكررت ليلة من ملايين الليالي الرخيصة التي يصنعها الفقر بين الزوجين في حصار الظلمة والملل! لي صديق. سافر إلي بلاد الله. أسأله في كل مرة: هل ستكتب عن الرحلة؟ يرد في عدم فهم: أنا أسافر لأشاهد. أستمتع لا لأضيع الوقت في الكتابة! يذكرني صديقي بالمثل المقابل: تشيخوف العظيم عندما كان يزور جزيرة سيخالين. يجالس المسنين والمصورين. ينصت إلي حكاياتهم. ليستعيدها - فيما بعد - ويوظفها في إبداعه. وكان يدفع لراوي الحكاية التي تجتذبه شلناً كاملاً. الفن قيمة إنسانية كبري. والفنان هو صانع هذه القيمة.