للوجوه ملامح غير محددة. والبيوت.. حين قابلني بجسده الممتليء ونظارته السميكة لم أعرفه. طرحت عليه السؤال وأعطيته حق التوصيل. هز رأسه المعممة وأشار قائلا: إذا استطعت الخروج من هذا الشارع المظلم تكون قد وصلت إلي أول الطريق. في ضوء المصباح نظر إلي وجهي. صاح. خلع نظارته السميكة واحتضني بقوة. لقد تغيرت كثيرا. لم أرك منذ سنوات كيف حال الأولاد ؟ بخير.. لقد أكلت السنون من وجهك كثيرا. لكنها لم تستطع النيل من جسدك. ضحك كطفل. وقرر الرجوع الي البيت. وفي البيت كان يحكي عن جدنا الأكبر وتحولات الزمان. والغربة.. وتمزيق الأوصال. حكيت له عن أبي ومحاولة رأب الصدع وإعادة المياه إلي مجاريها. ضرب صدري بأطراف أصابعه وقال: ثمة مسافة بين العقل والقلب.. ليت أباك يفهم ذلك. أبي ضحي كثيرا. ترك الأرض وخرج بجلبابه الوحيد.كان صغيرا وكنا في الغيب لانزال. ما الذي أتي بك؟ مشيئة الله ووصية أبي جئت تستعيد ماضاع منكم؟ بل جئت لنمد أيادينا ونطفأ لهيب الماضي. أشار إليهم . أتوا. صافحوني بتراخ. عادوا أدراجهم.. أعواد طويلة . صلبة. شوارب مشرعة لأعلي. تقف عليها الصقور. بعضهم يقبض علي بنادق نصف آلية. والآخرون يمسكون بهراوت غليظة. حين دخلت لم يهتموا بضيف أتاهم من بعيد. ثمة قاريء علي أريكة. يلتفون من حوله.. البعض يحدق بقسوة . ينفثون دخانهم في الهواء لتتحول إلي وجوه كالحة تتمدد فوق الرؤوس.. البعض يبتسم. لم أستطع تحديد الموقف. حاولت أن أرسم ابتسامة علي وجهي. خرجت شبه محايدة. صافحتهم وجلست. قام أصغرهم. صافحني بشدة ثم جلس. هل صرت كتلة من فراغ.. لم يرني أحد.. كانوا يومأون إلي بعضهم. ذهبت إلي المواجهة. رفعت يدي وحاولت الكلام.. "لايمكن للدم أن يصير ماء..". ألقيت قصائد من الشعر الحماسي.. صرخت. أطلقت العنان لجميع العواطف والمشاعر المكبوتة.. كان كل منهم يجلس منفردا.. رغم الصخب والضجيج الذي يصدر عنهم.. لم ينتبه أحد إلي وجودي. جاءني أحدهم يمشي في هدوء.. سحب الكرسي الذي أجلس عليه.. خرجت الي الطريق شبه المظلم. لم يحاول أحدهم إصطحابي. علي أن أبحث بنفسي.. الشوارع متشابكة.. بيوتها تسبح في الظلام. ثمة مصباح بعيد.. حاولت السير علي هداه. الصمت يسدل ستائره الكثيفة. لاشيء سوي نباح الكلاب البعيدة. كان الميدان خاليا من السابلة .. المركبات متهالكة.. جلست علي أقرب مقعد أنتظر مجيء الصباح.