"مصر هي البلد التي صدرت علوم الإسلام لعلماء الدنيا كلها وصدرته حتي إلي البلد الذي نزل فيه الإسلام" كلمات قالها فضيلة الإمام الشيخ محمد متولي الشعراوي منذ أكثر من 20 عاما ليؤكد عطاء مصر للدنيا علي مر العصور ورغم أن كثيرا منا لم يأخذ هذه الكلمات بما تستحقه من تقدير يواكبه أبحاث عن تراث علمائنا العظماء في كل مجالات العلوم وهذا هو ما فعله ثلاثة من شباب الباحثين السعوديين من تلاميذ الدكتور الشيخ زكريا الجعفري الطيار عالم الفقه الشافعي بالمدينةالمنورة حيث ظلوا لسنوات يبحثون عن احفاد الإمام علي السمهودي الذي نشر علوم المذهب الشافعي في المدينة وأرجاء الجزيرة العربية لرد الجميل لهم اعترافا بفضله عليهم وتقديرا لعلمه الذي ملأ أرجاء الدنيا في عصره ولكن تشابهت عليهم الأسماء والأماكن وتاهت خطاهم بين جاهل أو ضال باحث عن الأموال وأخيرا نجحوا بالاشتراك مع جريدة "المساء" في الوصول لأحفاد الإمام وكان اللقاء حارا وعظيما بين أبناء أم القري التي نزل فيها الإسلام والقرآن وأبناء أم الدنيا الذين نشروا علوم الإسلام. لم تكن رحلة العثور علي احفاد الإمام سهلة وميسرة والتي بدأت باتصال تليفوني من الشيخ علي طايع من أشراف مركز إسنا بالأقصر بمكتب "المساء" في قنا للبحث عن أحفاد الإمام محمد السمهودي ورغم أن الاسم يشير إلي قرية معروفة بمركز أبو تشت إلا أن أكثر من نصف قرن من الزمان كفيلة بأن ينسي الناس تاريخهم وتتداخل الأنساب وبعد جهود استمرت اياما كنا نبحث فيها عن احفاد الإمام حاول خلالها كثيرون أن ينالوا هذا الشرف العظيم إلا أننا كنا دائما نطلب أدلة دامغة علي صلة النسب مع الإمام ونجحت جهودنا بمساعدة النائب أحمد أبو عيسي ابن مركز أبو تشت في التوصل لأسرة الإمام والتأكد من حقيقة علاقتهم به ما لديهم من تسلسل للنسب حتي الإمام الحسين بالإضافة إلي كتب الإمام وصكوك مواريثه في المملكة العربية السعودية. وعن تاريخ الإمام محمد السمهودي يقول محمد العبد قادر الأنصاري الباحث السعودي أنه السيد علي بن عبدالله بن أحمد بن علي بن عيسي بن محمد بن عيسي أو الحسن نور الدين الحسني السمهودي الشافعي مؤرخ المدينة ومحدثها ومفتيه ولد في قرية سمهود بمحافظة قنا في شهر صفر سنة 844 هجرية في أسرة عرفت بالعلم والفقه وشرف النسب ونشأ فيها فحفظ القرآن الكريم كاملا وهو طفل صغير وقرأ علي والده بعض المتون وعددا من كتب الفقه والحديث النبوي. وفي عام 858 هجرية كانت أول رحلة له إلي القاهرة لطلب العلم ثم سافر إليها عدة مرات ودرس علي عدد من علمائها كالشمس الجوجري والجلال المحلي والشرف يحيي المناوي والنجم أبو قاضي عجلون وسعد الدين ابن الديري والسخاوي وغيرهم وأذن له في الافتاء والتدريس وهو ابن ست وعشرين عاما واختاره شيخه المناوي لعدة وظائف منها معيداً في الحديث بجامع ابن طولون وتدريس الفقه بالمدرسة الصالحية وعرض عليه النيابة والقضاء فأباهما. وجاءت رحلته المباركة إلي مكة عام 870 ه برفقة والدته لأداء فريضة الحج وظل بها عامين واستمع إلي كثير من علمائها وفي سنة 873 ه رحل إلي المدينةالمنورة واتخذها موطنا له ثم عادت والدته إلي سمهود سنة 874 ه لرعاية إخوته وقرأ في المدينة علي عدد من العلماء كالشهاب الابشيطي وأبي الفرج المراغي وعبدالله بن صالح الكناني وعمر بن أحمد السراج النفطي وغيرهم ثم تصدر للتدريس في المسجد النبوي وقد استفاد منه أهل المدينة كثيرا وقرأ عليه عدد كبير من أهل العلم حيث قال السخاوي: قل أن يكون أحد من أهل المدينة لم يقرأ عليه وممن أخذ عليه: شمس الدين محمد المسكين وزين الدين الكازروني وشمس الدين القطان وشمس الدين الخجندي وغيرهم كثيرون ثم تردد علي مكةالمكرمة ودرس في المسجد الحرام وكانت عنده مكتبة كبيرة مع مجموعة من المؤلفات احترقت في حريق المسجد سنة 886 ه فاضطر إلي كتابة بعض مؤلفاته مرة ثانية. وسافر بعد الحريق لزيارة أمه بسمهود فأدركها قبل وفاتها بعشرة أيام ثم سافر إلي القاهرة والتقي مع السلطان الأشرف قايتباي الذي أحسن إليه وأكرمه وبني مدرسة وجعله ناظرها وكلفه بالاشراف علي توزيع صدقاته وهباته علي أهل المدينة وكلفه بالإحسان إلي أهل المدينة ورفع المكوس عنهم فأجيب لطلبه واستطاع بواسطته فعل أشياء كثيرة في المدينة كسد السرداب المواجه للحجرة الشريفة والمتوصل منه لدور العشرة لما كان يحصل فيه من الفساد وكان آ خر من دخل الحجرة الشريفة قبل إغلاق السرداب. وفي طريق عودته من القاهرة سنة 887 ه زار بيت المقدس ثم حج وعاد للاستقرار في المدينةالمنورة بقية عمره وظل يدرس ويفتي في المسجد النبوي وعمل بالتجارة وأصبح صاحب ثروة عظيمة واشتري بالمدينة عدة عقارات من بيوت وبساتين وأصبحت له علاقات قوية بوجهاء عصره مثل اجود بن زامل زعيم نجد والبحرين والقطيف والأمير داود بن عيسي بن عمر ووثقوا فيه وولوه توزيع صدقاتهم علي أهل المدينة.. وقد اهتم بتاريخ المدينةالمنورة وكتب في تاريخها مجموعة من المؤلفات ويعد كتابة "وفاء الوفا" أكبر موسوعة تحدثت عن معالم المدينة بالتحقيق والتدقيق ورصد جميع التطورات التي حدثت في عهده بدقة متناهية ويعد الإمام آخر من زار الروضة الشريفة "القبر الشريف" من الداخل ووصفه ثم بني عليه جدار وله مؤلفات كثيرة اشهرها الآراء في حكم الطلاق والإبراء "الأربعون حديثا في فضل الرمي بالسهام" "الإفصاح في شرح الايضاح" و"أمنية المعتنين بروضة الطالبين" و"درر السموط فيما للوضوء من شروط" "دفع التعرض والانكار لروضة المختار" وتوفي بالمدينةالمنورة يوم الخميس الثامن عشر من ذي القعدة عام 911 ه وصلي عليه بالروضة الشريفة ودفن بالبقيع. وعن سبب رحلتهم الشاقة من المملكة العربية السعودية إلي اقصي جنوب صعيد مصر قال الشريف عبدالله الجعفري الطيار إن اجدادنا كانوا يعيشون في المدينة وتعلموا المذهب الشافعي علي الإمام السمهودي الذي كانت تربطه علاقة وثيقة مع زعيم الاحساء اجود بن زامل الجبري حيث طلب من الإمام نشر علوم المذهب الشافعي في الاحساء فطلب من الشريف نصر الله الطيار جد أسرة آل جعفر الطيار والشيخ علي بن محمد بن عبدالقادر جد أسرة ال عبدالقادر النجار بالذهاب إلي الاحساء وتعليمهم المذهب الشافعي وكان هذا سببا في أن تكون عائلتانا لهما شرف نشر المذهب الشافعي في المنطقة وقد جئنا لنرد الفضل لأهل الفضل ونرد الجميل للإمام السمهودي بزيارة عائلته ليعلم الناس تاريخ هذا العالم الجليل وقال الشريف محمد الجعفري الطيار إنه بالإضافة إلي ذلك فان للزيارة طبيعة المكان كيف كان وإلي أي مدي تغير وتأثيره علي شخصية الإمام ونلتقي بأقاربه وأبناء عمومته لنعرف منهم ما قد يكون خافيا علينا من سيرته وخاصة في مراحل عمره الأولي ونتعرف علي والد الإمام الذي كان له الفضل الأول في تعليمه بدءا من حفظ القرآن الكريم وحتي دراسته علي يد كبار العلماء في القاهرةومكةوالمدينة ورغم أننا نعلم كل صغيرة وكبيرة عن سيرة الإمام بداية من نشأته حتي وفاته ورحلاته وكتبه وتلاميذه والعلماء الذين تعلم علي أيديهم إلا أن وجودنا في مكان نشأته سيكون له أثر طيب في نفوسنا. وقال محمد سعيد آل عمير من قيم الإسلام أن نكون أوفياء لعلمائنا نذكرهم بالخير ونكون بارين بأهلهم وذويهم اعترافا بفضل العلماء الذين عانوا كثيرا لنشر علوم الإسلام كما أننا ومن خلال وجودنا مع أقارب الإمام وأبناء عمومته سنعثر بالتأكيد علي وثائق وكتب وصكوك تساعدنا كثيرا في التعرف علي سيرته. ويقول الشيخ نادي السمهودي أحد الأحفاد إن الشيخ علي السمهودي واشقاءه وابنائهم تولوا امامة الحرم المدني أكثر من 40 عاما حيث أنهم توارثوا العلم جيلا بعد جيل وترك 45 مؤلفا جميعها مؤثقة في دار الكتب وتدرس في المدارس والجامعات في المملكة العربية السعودية حتي الآن وقد كان ذهابه إلي المدينة بقرار من حاكم مصر ليكون إماما للحرم المدني وهو الذي نشر مذهب الإمام الشافعي في المدينةوالاحساء ومعظم انحاء الجزيرة العربية وزار كثيرا من البلاد الإسلامية التي كان يحظي باستقبال حافل فيها حتي أن كتب التاريخ تذكر أنه عندما ذهب إلي طرابلس في ليبيا قام الشيخ عبدالسلام بن مشيد بعمل استقبال حاشد له حيث اصطف طلاب العلم والمريدون والأهالي لعشرات الكيلو مترات علي الجانبين بداية من نزوله من السفينة وحتي وصوله إلي منزل الشيخ عبدالسلام ليكونوا في شرف استقباله والترحيب به. وأضاف أن الشيخ السمهودي لم ينجب وأوصي بتوريث أملاكه لاشقائه الثلاثة وكثير من هذه المواريث مازالت إلي الآن متواجدة في المدينةالمنورة وأنحاء المملكة العربية السعودية عبارة عن منازل ومزارع وحدائق شاسعة تدر مئات الملايين ومازال في شارع الصاغة في المدينةالمنورة منزل باسمه ومدرسة يدرس فيها حتي الآن مذهب الإمام الشافعي أننا نمتلك من العلم وشرف الانتساب لسيدنا الحسين وهو ما لا يمكن وزنه بالمال ويساوي أموال الدنيا كلها. وقال الشيخ عبدالسلام عزمي من محافظة الشرقية وحضر برفقة الباحثين السعوديين أن مؤلفات الإمام السمهودي كثيرة ومتنوعة وكلها تتميز بالوسطية والاعتدال والدعوة إلي الله بالحسني بعيدا عن التشدد والتزمت وفي كل الكتب التي قرأتها له لم اقرأ فيها كلمة عن التكفير. وأضاف أن مصر أم الدنيا حقا وفعلا وليست كلمة تقال لتعظيم الوطن ولكنها حقيقة يثبتها التاريخ عن قول سيدنا نوح لحفيده "بيسر" والذي سميت مصر علي اسمه "يابني بارك الله فيك وفي ذريتك وفي البلاد التي تسكنها فهي أم البلاد وغوث العباد" كما أن مصر اخذت وعدا بالأمان من رب العزة عندما قال: "ادخلوها بسلام آمنين" وقال إن الحديث الذي ذكر أن جند مصر خير اجناد الارض ثابت ولاشك فيه كما جاء في كتب التاريخ أن هذا الحديث ذكره عمرو بن العاص في خطبة له. وفي قرية سمهود كان اللقاء حارا مع تلاميذ الإمام السمهودي وأبناء عمومته خاصة أنهم من ينتمون إلي الأشراف وقاموا بزيارة ديوان العائلة ومسجد الشيخ السمهودي. وأقيم احتفال كبير شهده أبناء القرية وقام الشيخ محمود إبراهيم الطالب بكلية الهندسة بتلاوة مباركة من آيات الذكر الحكيم كما القي الشيخ عبدالسلام عزمي خطبة عن الصالحين والعلماء ومكانتهم في الدنيا والآخرة.