فضيلة الدكتور شوقي علام مفتي الديار المصرية نموذج وقدوة للفقيه المخلص الورع الذي ما أن تلقاه حتي تلمس في شخصه الكريم تواضع العلماء وطيبة القلب التي تدل علي ما يحمله من سماحة وعلم وصدق وفكر مستنير ونقاء سريرة.. ومنذ أن تولي د.علام مقاليد منصبه لم يأل جهدا من أجل الارتقاء بمكانة دار الإفتاء المصرية علي المستوي العربي والعالمي.. فجهوده المتميزة ظاهرة للعيان مما جعل القيادة السياسية مؤخرا تمنحه الثقة لقيادة الدار لفترة أخري. التقينا فضيلة المفتي في مكتبه وقابلنا بابتسامته المعهودة وتواضعه الجم وأجرينا معه حديثا شيقا تناول العديد من القضايا التي تمس الفتوي وحياة المصريين وكل ما يشغل بال المسلمين.. وهذا نص الحوار: * لدار الإفتاء مسيرة حافلة بالإنجازات.. فما هي رؤية فضيلتكم المستقبلية لتفعيل دور الدار في حل مشكلات المجتمع المختلفة ؟ ** دار الإفتاء المصرية تستشعر بنبض المجتمع وتتفاعل معه. وذلك عبر ما تتلقاه من فتاوي تمس مختلف مناحي الحياة. فهي تقوم بقراءة الحركة المجتمعية يوميا من خلال الإحصاءات التي تصل الدار من لجان الفتوي المتعددة. ومن خلال هذه الإحصاءات استطاعت الدار أن ترصد الهموم المجتمعية التي يعيش فيها الإنسان المصري بل العالم كله. حيث تستقبل أسئلة من خارج مصر وتجيب عنها بأكثر من 10 لغات. وكذلك صياغة رؤي تترجم إلي برامج عملية تساهم بشكل كبير في حل العديد من مشكلات المجتمع.. ومن ضمن ذلك برامج تأهيل المقبلين علي الزواج التي بدأتها الدار قبل أكثر من عامين وأتت ثمارها في الحقيقة. حيث زاد الإقبال عليها في الدورة الرابعة التي بدأت منذ أيام. ونحن نقرأ هذه الإحصاءات وجدنا أنه في خلال الخمس سنوات الماضية - بحسب الجهاز المركزي للإحصاء- ارتفعت نسبة وقوع الطلاق. خاصة في السنوات الخمس الأولي من الزواج. حيث رصدنا تلك الظاهرة. وقرأنا المشكلة. فوجدنا أن هناك أسبابًا لوقوع الطلاق. منها عدم معرفة حقيقية بين الزوجين في السنوات الأولي بأصول العلاقة الأسرية. وكذلك عدم معرفة الحقوق والالتزامات التي ترتبت علي عقد الزواج. ليس هذا فحسب.. بل أنشأت كذلك وحدة للإرشاد الأسري داخل الدار. حيث تحال إليها المشكلات من إدارات الفتوي المختلفة. فضلاً عن إدارة فض المنازعات الأسرية. * دار الإفتاء لها إسهامات كثيرة في الرد علي استفسارات المواطنين.. فما هي الفتاوي الشائعة التي تأتي إليها؟ ** أكثر ما يأتي من فتاوي إلي دار الإفتاء هي فتاوي أسرية ومجتمعية خاصة فتاوي الطلاق والأمور المتعلقة بالأسرة. حيث يأتي للدار شهريًا 3200 فتوي طلاق يقع منها اثنان أو ثلاثة علي الأكثر بعد التحقيق والتدقيق. يأتي بعد ذلك فتاوي المواريث والمعاملات البنكية والقروض وكذلك العبادات. * وما أخطر الفتاوي التي استقبلها مرصد فتاوي التكفير؟ ** في مطلع عام 2014. استشعرت دار الإفتاء المصرية مبكرًا خطر الفتاوي التكفيرية والفكر المتطرف علي المجتمع المصري. وذلك عبر عدد من الدراسات والأبحاث التي ترصد وتحلل الشأن الديني في مصر والعالم. والتي أوضحت بما لا يدع مجالا للشك أن المجتمعات الإنسانية بشكل عام. والإسلامية بشكل خاص. تواجه خطر انتشار الأفكار التكفيرية والمتطرفة وما يستتبعها بالضرورة من سلوكيات إرهابية وإجرامية لا تفرق بين مسلم وغير مسلم» فبادرت بإنشاء مرصد للفتاوي التكفيرية يعمل وفق منهجية علمية منضبطة بضوابط العلم والعمل الصحيح المنبثق عن الفكر الوسطي. حيث يقوم المرصد برصد كافة الفتاوي التكفيرية والمتطرفة ويعمل علي تحليلها وفق منهج علمي رصين يراعي السياقات الزمانية والمكانية للفتاوي. ويقدم ردودًا علمية شاملة وموثقة ومعالجات موضوعية. وقد صدر عن المرصد عدة تقارير لمعالجة وتفنيد أقاويل وافتراءات تلك التنظيمات الإرهابية. كان أخطرها فتوي داعش بضرورة قيام افرادها بالاغتيالات السياسية وقتل رجل الجيش والشرطة. وتحريم السياحة وقتلهم للسياح. وهدم الآثار وسبي النساء وغيرها. * تبذل الدار جهودا حثيثة لتحسين صورة الإسلام في الخارج.. فهل استطاعت بالفعل في تحقيق أي نجاح ملموس؟ ** للأسف منذ أحداث 11 سبتمبر زادت وتيرة الإسلاموفوبيا. وخلال السنوات الأخيرة لاحظنا هجومًا شديدًا في الغرب علي الإسلام ومحاولة تصويره علي أنه دين يحض علي العنف وسفك الدماء. فأردنا أن نقوم بدورنا للذود عن الدين. كما أنه توجد أيضًا أقليات إسلامية في الغرب لها قضاياها الدينية التي تريد الاستفسار عنها. ودار الإفتاء تعمل من خلال منظومة يكمل بعضها بعضًا في الداخل والخارج.. وقمنا بذلك عبر عدة وسائل من أهمها إرسال قوافل من علماء دار الإفتاء المصرية للقيام بجولات خارجية تجوب الخمس قارات لنشر الفكر الصحيح. وتوضيح العديد من المفاهيم التي يستغلها المتطرفون وأعداء الإسلام في تشويه صورة الإسلام والمسلمين في الخارج وسوف تكون المحطة القادمة في أوروبا. كما شاركت في العديد من المحافل الدولية الهامة. والتقيت عددًا من زعماء العالم وقادة الرأي والفكر وصناع القرار. وشاركت في الاجتماع السنوي لمنتدي "دافوس" بدعوة رسمية من رئيس المنتدي الاقتصادي العالمي. بحضور أكثر من 150 من رؤساء الدول والحكومات وكبار الشخصيات حول العالم. إضافة إلي لقاء الأمين العام للأمم المتحدة.. كما عقدت جلسة مباحثات مطولة. مع بان كي مون. الأمين العام للأمم المتحدة بجنيف. وذلك في مستهل مشاركته في منتدي دافوس العالمي. حماية الشباب من التطرف * ما هي الجهود التي بذلتها الدار لحماية الشباب من التطرف؟ ** استكمالًا لجهود دار الإفتاء المصرية في التواصل مع الشباب بعد تجربتها الناجحة في عقد مجالسها الإفتائية بمختلف مراكز الشباب علي مستوي الجمهورية. ستقوم الدار في العام الجديد بتعزيز هذه الجهود عبر إطلاق قوافل إفتائية دورية داخل الجامعات المصرية سأشارك فيها بنفسي للإجابة عن تساؤلات الشباب والتواصل معهم. * تعقد الدار سنويا مؤتمرا عالميا للإفتاء فهل يتم بالفعل تنفيذ توصياته علي الصعيد المحلي والإسلامي؟ ** منذ أن أعلنا عن إنشاء الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم ونحن نعقد اجتماعات مستمرة ودورية من أجل توحيد خطاب الإفتاء علي مستوي دور الإفتاء والهيئات الإفتائية من الأعضاء.. وتم بالفعل تنفيذ العديد من المبادرات والتوصيات التي تم الاتفاق عليها. منها إنشاء مجلة تحت اسم "مجلة الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم" يصدر أول عدد منها في أبريل المقبل تحت عنوان: "الاجتهاد الجماعي في النوازل. وأثره في استقرار المجتمعات". وهي مجلة فصلية علمية مُحكَّمة. تصدر بعدة لغات. ومتخصصة في نشر البحوث العلمية من مختلف دول العالم. ويتم فيها مراعاة تأصيل الحقائق العلمية للمستجدات. وتأصيل ضوابط الإفتاء وتفعيلها في الواقع العملي. مما يفسح مجال النشر للمتخصصين في الدراسات الإفتائية والفقهية. سعيًّا إلي نشر صحيح الدين وإزالة اللبس في القضايا الشائكة والخلافية. وكذلك تم إصدار كتابين الأول حول "الإسلام وقضايا العصر" وقد صدر باللغات التالية "العربية - الإنجليزية -الفرنسية -الألمانية -الإسبانية" وعدد القضايا بالكتاب عشرون قضية.. والإعداد لكتاب أخر والذي من المقترح أن يحمل عنوان: "قضايا تأسيسية في فقه التجمعات المسلمة". وأنشأت الأمانة موقعًا إلكترونيًا بلغات عدة لكي يستطيع الوصول لأكبر عدد ممكن من الناس من مختلف البلدان. حيث يستقبل الفتاوي والتساؤلات ويرد عليها. كما يعرض أبحاث ومقالات تفند الفكر المتطرف وترد عليه. كما تم عقد المؤتمر الدوري السنوي والذي نعد له لافتتاح فعالياته قريبا. وكان عنوان المؤتمر الماضي: "التكوين العلمي والتأهيل الإفتائي لأئمة المساجد للجاليات المسلمة". كما تخرج بعض القوافل الافتائية المشتركة في عدد من دول العالم. وهناك عدد من المشاريع العلمية التي تعكف الأمانة علي بدءها وفقًا للاستراتيجية التي تم وضعها ستظهر للنور قريبًا. * من التوصيات الهامة التي خرج بها مؤتمر الإفتاء الإعلان عن ميثاق شرف للإفتاء.. فهل سيستطيع هذا الميثاق مواجهة فوضي الفتاوي؟ ** جاءت التوصية بإنشاء ميثاق شرف للفتوي من أجل تحديد ووضع الأُطُر القانونية والإجرائية للتصدي لفوضي الفتاوي. وبالفعل تم دعوة المشتغلين بالإفتاء مؤسسات وأفرادًا إلي تفعيله والالتزام به من أعضاء الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم. فإذا تم العمل به فإن ذلك من شأنه أن يكون له أثر كبير في القضاء علي فوضي الفتاوي. تجديد الخطاب الديني * كثرت الدعوات لتجديد الخطاب الديني.. فهل هذا التطوير وحده كفيل بالقضاء علي التشدد والعنف في المجتمعات الإسلامية؟ ** فوضي الفتاوي يتم القضاء عليها عندما تقتصر الفتوي علي المتخصصين» لأن الفتوي لا بد فيها من ثلاثة أركان أولاها إدراك النص. والثاني إدراك الواقع بعوالمه المتشابكة. والثالث كيفية إيقاع هذا النص المطلق علي هذا الواقع المتغير النسبي» بحيث إنه لا يخرج عن إجماع المسلمين. ولا عن هوية الإسلام. ويحقق المقاصد الشرعية والمصالح المرعية. ويعتبر المآلات المعتبرة. وأري أنه علي الجميع أن يستمع إلي المنهج الوسطي والمعتدل الذي يتصف به الإسلام» لأن الغلو والتطرف والتشدد والتهجم علي ثوابت الدين ليس من طباع المسلم الحقيقي. ولا من خواص أمة الإسلام بحال من الأحوال. ومنهج الدعوة إلي الله يقوم علي الرفق واللين. ويرفض الغلظة والعنف في التوجيه والتعبير والتوازن والاعتدال والتوسط والتيسير. ومن خطورة التطرف والتشدد أنه تسبب في تدمير بني شامخة في حضارات كبري. وهو بكل أشكاله غريب عن الإسلام الذي يقوم علي الاعتدال والتسامح. ولا يمكن لإنسان أنار الله قلبه أن يكون مغاليًا متطرفًا ولا متشددا ولا متهجما علي ثوابت الدين. كما أننا بحاجة إلي تعاون أجهزة الإعلام في هذا الأمر بعدم استضافة غير المختصين في برامجها حتي لا يبثوا سمومهم بين الناس. وأن يتيحوا المجال لأهل التخصص لتصحيح المفاهيم وإرشاد الناس إلي صحيح الدين.. ساعتها سيرتقي حال الخطاب الديني ويسهم بشكل كبير في إصلاح المجتمعات الإسلامية. * شاركت فضيلتكم في المؤتمر الدولي للحوار بين أتباع الأديان.. فهل ساهم هذا المؤتمر في إقناع الآخر بالدين الحنيف؟ وهل حقق الحوار مع الآخر أي نجاح؟ ** ترسيخ التسامح والتعايش والحوار هو نهج نبوي. رسخه النبي صلي الله عليه وآله وسلم والخلفاء الراشدون من بعده في نفوس المسلمين. حتي ينشئوا مجتمعا إسلاميا تسوده المودة والرحمة والتعايش والسلام. من أجل عمارة هذا الكون.. ومن المهم أن يسير أولو الأمر علي نهج النبي صلي الله عليه وسلم في نشر قيم التسامح والتعايش. لأن هذا من شأنه أن يقضي علي التطرف الذي ينتهجه البعض. وهو ما سينعكس بشكل كبير علي السلم المجتمعي ورفعة البلاد ونمائها. وبالنسبة لما حققه الحوار مع الآخر من نجاحات فإن تصريحات بابا الفاتيكان مؤخرا والتي تنفي الإرهاب عن الدين الحنيف تعتبر أكبر دليل علي نجاح الحوار مع الآخر. * الفتنة الطائفية تضرب دولا إسلامية وعربية عديدة.. فهل من الممكن أن تصل هذه الفتنة إلي مصر؟ وكيف يمكن تعزيز مفهوم الوحدة الوطنية بين المصريين؟ ** مصر محصنة ضد كل هذه الأمور وتجربتها التاريخية الفريدة دليل علي ذلك. لأن أهل مصر في رباط إلي يوم الدين.. ومهما حاول دعاة الفتنة أن يبثوا فتنتهم لن يفلح كيدهم لأن التجربة المصرية فريدة من نوعها في تحقيق التعايش والمواطنة سواء علي المستوي الاجتماعي أو الدستوري الذي يساوي بين جناحي مصر المسلمين والمسيحيين في الحقوق والواجبات دون أي تفرقة. وكم مرت مصر بأزمات أظهرت للقاصي قبل الداني أن لحمة بناء الوطن واحدة ومتماسكة ولن يفت عضضها أي شئ. وأبناء مصر مسلمون ومسيحيون قدموا أرواحهم فداءً لهذا الوطن. من الواجب بل من أوجب الواجبات الحفاظ علي هذه الوحدة الوطنية في الوقت الراهن» حتي تستطيع مصر عبور هذه المرحلة الصعبة. ومبدأ المواطنة ينبغي أن يكون الميزان الذي توزن به الأمور داخل هذا الوطن. فالجميع شركاء في خيره. وشركاء كذلك في اقتسام التكلفة التي سندفعها جميعًا مسلمين ومسيحيين إن تركنا مصر للفرقة والتمزق. وبالتالي علينا تفويت الفرصة علي من يريد أن يوقع بين طرفي الأمة. كما نحتاج أن ندرب أنفسنا والمجتمع معنا علي فكرة قبول الآخر وقبول الاختلاف معه وعلينا أن نصل إلي مرحلة التوافق والاستقرار. وذلك من خلال إشاعة ثقافة الحوار فيما بين الإنسان وأخيه أو بينه وبين الآخر. وأيضًا يجب أن نبحث عن المشترك الذي به التعاون والانطلاق. وأن نستوعب التضاد في وجهات النظر ولا نحوله إلي صدام. * في النهاية نريد روشتة لإصلاح حال البلاد والعباد؟ ** الحل هو العمل ثم العمل ثم العمل.. وعلي المصريين جميعًا أن يعبروا عن انتمائهم للوطن بعمل يعود نفعه علي البلاد والعباد. فالعمل هو ما سيصل بمصر إلي بر الأمان. ولا بد كذلك من البعد عن إثارة الشائعات وترديدها بما يضر بأمن وسلامة البلاد. وعدم التركيز علي الأشياء التافهة التي تضر والتركيز علي ما ينفع البلاد والعباد. والبعد أيضًا عن أي نوع من أنواع الصراعات التي من شأنها أن تفت في النسيج الوطني. والاهتمام بالعلم والبحث العلمي لأنهما بمثابة القاطرة التي تجر مصر إلي مصاف الدول الكبري. فمصر مليئة بالخيرات والخبرات التي سوف تسهم بإذن الله وبقوة في بناء مصر في عهدها الجديد. كما أنه لا سبيل للسلام داخل المجتمعات إلا بنشر ثقافة التعايش والتسامح وقبول الآخر بين طرفي الأمة. وعدم اصطناع الأزمات والأفعال الاستفزازية التي تشعل فتيل التوتر بين الناس. وهو ما ينعكس سلبًا علي وحدة الشعب كله مسلمين ومسيحيين.