أمضيت ليلتي بالأمس مع كتاب "مصر.. الانتماء والثقة السياسية" الصادر عن سلسلة "كتاب الجمهورية" عدد يوليو ..2016 وهو كتاب ينتمي إلي شجرة علم الاجتماع السياسي.. ومؤلفه الدكتور عبدالرءوف الضبع أستاذ علم الاجتماع بجامعة سوهاج من الأعلام المشهود لهم بطول الباع في هذا المجال.. ولذلك جاء كتابه متضمنا العديد من الدراسات الميدانية الجديرة بالمتابعة والنظر. ولست مبالغا إذا قلت إن الكتاب يحمل قدرا كبيرا من الجرأة في اقتحام موضوعات وقضايا في غاية الحساسية.. ويسعي إلي تأصيل فكرة الانتماء والثقة السياسية بأسلوب أكاديمي رصين.. لا يستهدف مواكبة موجات الدعاية والتعبئة السياسية والإعلامية التي تملأ الفضاء عن الولاء والانتماء.. وإنما يستهدف الكشف عن الدعائم الحقيقية والصحيحة التي تقيم هذا الانتماء وتحافظ عليه. ويتضمن الكتاب العديد من الدراسات الميدانية التي تتناول قضية الانتماء.. زيادته ونقصانه.. وجوده وعدمه.. ولعل أهم هذه الدراسات دراسة تتعلق ب "المتغيرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المرتبطة بالانتماء الوطني لدي الشباب" ودراسة عن "أزمة الثقة وعلاقتها بالاغتراب السياسي للشباب".. ودراسة ثالثة عن "اتساع التناقض الطبقي وزيادة معدلات الفقر وثورة يناير".. ورابعة عن "الخصخصة والتعليم". وقد توقفت كثيرا أمام المقدمة عميقة المعني والمغزي التي كتبها الزميل المثقف سيد حسين رئيس تحرير سلسلة "كتاب الجمهورية" في صدارة هذا الكتاب ليقدم لنا رؤية شاملة وواعية عن قضية الانتماء التي يتحدث عنها كثيرون بلا فهم ولا وعي.. ويظنون أنها مجرد كلمة تقال في هوجة النفاق السياسي. يقول سيد حسين: "الانتماء للوطن يقوي ويزداد عندما يحصل الإنسان علي تعليم متطور بالمجان. ورعاية صحية كاملة. وعمل يناسب قدراته وتخصصه طبقا لتكافؤ الفرص المتساوية للجميع.. فيبدأ بتكوين أسرة سعيدة آمنة مطمئنة علي مستقبلها.. ويزداد الانتماء عند المواطن عندما يشعر بحريته وكرامته الإنسانية. ثم يتحدث عن توحش السياسات الرأسمالية ودورها في إفقار الناس وتقسيم المجتمع إلي طبقتين: أثرياء ومعدمين.. سكان الكومباوندات والمنتجعات وسكان العشوائيات. بينما تضيع الطبقة الوسطي.. وانعكاس ذلك علي ضعضعة الانتماء وتقطيع أوصاله.. فالمجتمع القائم علي التسول والإحسان لا يستقيم أبناؤه ولا تسطع شمس كرامته ولا نبل قيمه.. فكيف ينتمون إليه؟!.. وقد انتبه تراثنا العربي إلي تأثير الفقر في النفس البشرية بما يجعل صاحبها كارها لمجتمعه حاقدا علي الآخرين ومنعزلا.. حتي يصير مغتربا غير منتم لذلك المجتمع الذي لم يعطه حقوقه في ثرواته وخيراته ولم يحقق العدالة الاجتماعية الشاملة. وينقل عن علماء الاجتماع رؤيتهم السلبية لما قامت وتقوم به مؤسسات العولمة الاقتصادية - صندوق النقد الدولي والبنك الدولي - من تقليص لدور الدولة في إدارة الاقتصاد وتنميته.. وبالتالي إضعاف الانتماء الوطني.. فالحاكم له الدور الأكبر في تقوية انتماء المحكومين لوطنهم إذا كان عادلا حازما وواعيا بأهمية العدالة الاجتماعية والفقر ومثقفا.. وذا رؤية ثاقبة وإرادة قوية ولا يحابي بعض الناس علي حساب الآخرين.. ولا يغتصب أو ينهب ثروات البلاد. وهناك عامل مهم في تخريب الانتماء وهدم أركانه يرتبط ب "الصحة النفسية للمواطنين".. وهذا يحدث عندما تنقلب المعايير وتفسد القيم وتضيع العدالة.. ويستحوذ لاعبو الكرة والممثلون علي الأضواء ويهبط مقام العلماء والأدباء والمفكرين وعلماء الدين.. وتنتشر الرشوة والمحسوبية وتزور الانتخابات وتصعد الفئات المنافقة وكتبة السلطة علي حساب أصحاب الكفاءات العلمية والفنية.. وهو ما يؤدي إلي تدمير الشخصية الوطنية وضعف الانتماء. يقول سيد حسين: لن يبرأ الانتماء إلا ببراء اللغة القومية.. ولن تبرأ اللغة إلا ببراءة الانتماء.. لذلك يجب الحفاظ علي اللغة وتطوير التعليم ومقاومة الغزو الثقافي والفني والفكري لضمان دعم وتقوية الانتماء للوطن.