لا أعرف سر تجاهله لي وهو الذي يبادرني دائماً بوجهه الباش المحب وحضنه الودود. تختلط ضحكاته بكلماته حتي يصعب التمييز بينها!.. اليوم بكرت لصلاة الجمعة قبل الأذان. وجدته في المسجد ساكناً خلف أحد الأعمدة. متعمداً مررت به. هممت بمصافحته كعادتنا. شعرت بحنين يدفعني لاحتضانه وتقبيله. لكنني احترمت خشوعه. تجاوزته. جلست أمامه بحيث يراني قائلاً في نفسي عندما يتنبه سيثب إليَّ كعادته. ليتني أفعل مثله!.. أخلع الدنيا من قلبي كما أخلع حذائي وأنا علي عتبة المسجد. القلب تقاذفته الهموم. طلبات الأبناء لا تنتهي. الدروس الخصوصية كالنار لا تدع في طريقها إلا الكفاف الذي نعيش فيه. حتي الدواء أصبحت أتجرع الماء وأنا أوهم زوجتي أني أتناوله حتي لا تفعل مثلي وتتركه هي الأخري!.. الأسعار لا حدود لجنونها. وتعويم الجنيه ورفع الدعم وقرض البنك الدولي لا يشغلني في شيء. فقط ما يهمني هو الستر. تمنعني عزة نفسي أن أمد يدي بالسلف لمخلوق. فلتقترض الحكومة ما تشاء لكني لن أفعل! مضي وقت ولم يهل كعادته. تضايقت. التفت إليه. وجدته مازال مستغرقاً في سكونه. تذكرت نبيل صديقنا المشترك. كان يهاتفني بالأمس يشكو منه. اتصل به علي تليفونه المحمول كي يطمئن عليه. ردت زوجته. قالت إنه نائم. وستجعله يتصل به. لكنه لم يفعل. شعر أنه يتجاهله. هذا ما تكرر من قبل!.. قلت: لعل زوجته قد غاب عنها سهواً إبلاغه. وطيبت خاطره. ها هو يتجاهلني أنا الآخر! لكني لم أشعر بالضيق. وإن تعجبت من سلوكه علي غير عادته! مضي علي صداقتنا - لا نفترق - عشرون عاماً. في البداية جمعنا العمل في شركة واحدة نلتقي يومياً. إلي أن تركت الشركة والتحقت بعمل آخر. شغلتنا الحياة بهمومها ولم تمنعنا من أن نلتقي دوماً. نتحدث ونتحاور ونفرغ هموم الحياة. هو دائماً مصدر للبهجة والسعادة والتفاؤل. نراه كل مرة راضياً وسعيداً. حين يأتي صوته علي الهاتف أشعر بعد المكالمة بتغير يجتاحني من الأمل. هو علي يقين أن الوطن سيجتاز المحنة. وأن المستقبل يحمل الخير. واننا نمتلك فرصة كبيرة للتقدم. أحياناً أحسده علي تفاؤله المفرط. ونظرته الواثقة المطمئنة. ويقينه بأن الغد يحمل الخير الكثير. رويت له - ذات مرة - عن نظرية المؤامرة التي أتعرض لها لإفساد يومي منذ أفتح عيني في الصباح لأغلقها في الليل. المواصلات ومتاعب العمل ومطالب البيت وهموم الأبناء وبرامج "التوك شو" ومتاعبي الصحية وتجاهل البواب لي. وهو يراني محملاً بالمشتريات الثقيلة وقسوة الحياة.. كلما يحادثني يبادرني ضاحكاً: - ما أخبار المؤامرة التي تتعرض لها لإفساد يومك؟! أجيبه ضاحكاً أنا الآخر: - أصبحت أشك أن المؤامرة ربما تكون ممولة من الخارج. ولها أذرع خفية في الداخل تحركه. لا هدف لها سوي إفساد يومي! سألني ذات مرة: - هل صادفت يوماً مخلوقاً استطاع أن يمنع الشمس من البزوغ؟! ذهلت ولم أجب قبل أن يكمل: - رغماً عني وعنك ستبزغ الشمس إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها. تنتابني رغبة ملحة للسرحان وأنا أستمع لخطبة الجمعة!.. بدا لي انني قد أكون استمعت إليها من الخطيب نفسه من قبل!.. هو يتحدث عن حق الجار. ابتسمت وأنا أتذكر ضجيج الجيران من حولي حتي الليل المتأخر. وأنا الذي يسعي لنومه مبكراً. لما قمنا للصلاة حجبني عن رؤيته كثرة المصلين. منيت نفسي أني سأنفرد به بعد الصلاة. عزمت أن أعاتبه. وحتماً سأشير له عما فعله مع نبيل. وربما نتجاوز ذلك للحديث عن المؤامرة. سأروي له أيضاً رؤيتي له في المنام منذ بضعة أيام ونحن نلحق بالمترو من محطة العتبة وقد أغلق الباب قبل أن أتمكن من الصعود لشدة الزحام. يشير لي - ضاحكاً كعادته - من خلف الزجاج داخل المترو. أنه سينتظرني في المحطة التالية. استيقظت من الحلم وأنا حانق علي نفسي لأني لم أركب معه. عندما فرغنا من صلاة الجمعة. أرسلت بصري إليه. وجدته مازال ساكناً في مكانه خلف العمود. فوجئت ببعض المصلين يسارعون إليه. يحملونه. يضعونه في مقدمة المسجد أمام المنبر. والإمام يدعو لصلاة الجنازة.