إن الإعلام كما هو معروف منهجياً في التعريف الأكاديمي هو كافة أوجه النشاط الاتصالي الذي يستهدف تزويد الجمهور بكافة الحقائق والأخبار الصحيحة والآراء السليمة عن القضايا والمشكلات ومجريات الأمور بطريقة موضوعية وبدون تحريف. بما يؤدي إلي ايجاد أكبر قدر من المعرفة والوعي والإدراك والإحاطة الشاملة لدي فئات جمهور المتلقين للمادة الإعلامية. وبما يسهم في تنوير الرأي العام وتكوين رأي صائب لدي الجمهور في الوقائع والموضوعات والمشكلات المثارة والمطروحة. إن ذلك هو الدور البناء والايجابي الذي يفترض أن يؤديه الإعلام في المجتمع. غير أن طغيان السياسة وشراهتها في السيطرة علي مقدرات وامكانيات الدولة لتحقيق أهدافها بشتي الطرق ارتكازاً علي القاعدة الميكافيلية "الغاية تبرر الوسيلة" جعلها تسعي للتحالف مع رأس المال بكافة صوره ووسائله وأبرزها علي الاطلاق هو الإعلام بمختلف مجالاته المقروءة والمسموعة والمرئية والالكترونية. والإعلام بفعل ما ينفق عليه من أموال طائلة قد حقق منذ منتصف القرن الماضي قفزات هائلة في مجال التطور والتحديث وبدرجة يسبق فيها من خلال ثورة الاتصالات ما عداه من العلوم والفنون وشتي مناحي الحياة العصرية ومتطلباتها. فأصبح يمتلك من التقنيات الأرضية والفضائية ما يمكنه من سرعة التواجد في جميع الأحداث والفعاليات المخطط منها والمفاجئ. كما يتمتع بلحظية الإرسال والبث وخاصة في مجال نقل الصورة وما يصاحبها من عناصر الجذب والتشويق البالغ حد الإبهار عبر شاشات التليفزيون. وما تحدثه في نفس المشاهد والمتابع من تأثير طاغ ينعكس علي فهمه وإدراكه ويسهم في تشكيل فكره ووجدانه إزاء الأحداث. حتي أصبح أساتذة وخبراء علم الاتصال يعتبرونه من حيث قدرة التأثير والتوجيه وتشكيل الفكر والوجدان "الأب الثالث" في مجتمع الأسرة. وأصبح الاستثمار فيه جاذبا ومشبعاً لرؤوس الأموال الفردية والمؤسسية لارتباطه بفن آخر من فنون الاتصال الجماهيري ذات العائد المجزي وهو فن الدعاية والإعلان. من هنا برزت أهمية الإعلام وظهرت الحاجة لاستغلال قدراته وامكاناته وعمق تأثيره في دعم السياسات وتمرير الخطط والبرامج كما يراها الساسة وأصحاب رؤوس الأموال. وأصبح الإعلام من خلال التحالف والتزاوج بين السلطة ورأس المال خادماً طبعاً يسخر قدراته وإمكاناته الهائلة في تشكيل فكر وآراء الرأي العام لضمان دعمه وتجاوبه الفعال مع كل ما تنتجه مؤسسة السياسة أو يستهدفه ملاك الصحف والمحطات المسموعة والمرئية. إنها لعبة السيطرة والهيمنة علي فكر الجماهير وإخضاعها لعملية مدروسة وممنهجة أطلق عليها هربت شيللر أستاذ مادة الاتصال بجامعة كاليفورنيا بسان دييجو في كتابه الذي أحدث ضجة مجتمعية هائلة وأثار جدلاً كبيراً في الولاياتالمتحدة وأوروبا "تضليل العقول". والذي أقر فيه بأن الإعلام أصبح سلاح الساسة وأصحاب المؤسسات الكبري وملاك رؤوس الأموال لتضليل الجماهير وتغييب الوعي وتسييس العقول. ولقد بدأ الدور النشط للإعلام في الظهور مع بداية الثورة الصناعية في منتصف القرن التاسع عشر. وكان الدافع في ذلك اقتصادياً وتجارياً وفي مجال التنافس بين الشركات والمؤسسات لخلق الأسواق وترويج السلع والمنتجات. ثم ما لبث أن أصبح وسيلة من وسائل الحرب النفسية في الحروب وأداة من أدوات السياسة في مخاطبة وتوجيه الرأي العام. بدأت أهمية الإعلام تتجسد بشكل واضح وجلي في معقل التقدم الإعلامي في العصر الحديث وهي الولاياتالمتحدةالأمريكية. وكان الإعلام المصاحب للقوات الأمريكية في الحربين العالميتين الأولي والثانية موجهاً من قبل الحكومة ومستهدفاً إبراز شجاعة القادة والضباط والجنود في ميادين القتال. وتوضيح أهمية وضرورة الدور الذي تلعبه الولاياتالمتحدة لدعم حلفائها والحفاظ علي القيم الغربية الصاعدة والمتنامية وهي الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان. في مواجهة العنصرية والفاشية والشيوعية التي أخذت بدورها في الصعود والانتشار عالمياً بدرجة مخيفة في أوروبا وبعض المناطق الأخري في قارات آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. واستمر دور الإعلام الأمريكي موجهاً وتحت سيطرة القادة العسكريين في بداية الحرب الفيتنامية ليعلن عن إمكان استخدامه لتضليل الرأي العام وإخفاء ما يثير غضبه وحنقه من الحقائق. وعندما طال أمد الحرب وبدأت الشائعات تتوارد متسربة من قيود الرقابة المفروضة علي الإعلام لتثير دخاناً قاتماً يشتم من رائحته حجم هائل من الفظائع التي ترتكبها القوات الأمريكية ضد مقاتلي الفيت كونج في فيتنام. حتي بدأ الإعلام يلعب دوراً منفرداً ومتحرراً من قيود التوجيه الحكومي ورقابته ويغامر بالتواجد الخطر علي مسئوليته ونفقته الخاصة في المناطق الساخنة ليكشف كذب القيادات العسكرية وزيف ادعاءات المسئولين السياسيين وخداعهم للرأي العام حول أحداث الحرب وخاصة ما يتعلق بعدد القتلي الأمريكيين والذي بلغ في نهاية الحرب التي انتهت عام 1975 ما يربو علي 58 ألف قتيل. وبدأت الحملات الإعلامية تفند وتفضح الممارسات الأمريكية وتخلق رأياً عاماً داخلياً مناهضاً للحرب. ولعلنا نذكر هنا موقف الملاكم الأمريكي الشهير محمد علي كلاي ورفضه في ذلك الوقت التجنيد والذهاب إلي فيتنام وتفضيله السجن والتخلي عن لقبه كبطل أبطال الوزن الثقيل في الملاكمة علي قتال الأبرياء كما كان يصرح في دفاعه عن موقفه. وقد شاركه وتعاطف معه في موقفه هذا آلاف الأمريكيين. حتي أن الخبراء والمحللين لتلك الحرب يعتقدون أن الإعلام الأمريكي هو أحد الأسباب الرئيسية للخروج المهين للولايات المتحدة من فيتنام. وفي فورة الاستقلال والتحرر الإعلامي التي أفرزتها حرب فيتنام نجح الإعلام الأمريكي في إسقاط الرئيس ريتشارد نيكسون في فضيحة ووترجيت الشهيرة بكشفه تصنت الحزب الجمهوري علي المقر الانتخابي للحزب الديموقراطي اثناء الحملة الانتخابية. وفي ظل سطوة الإعلام وقدرته علي هز العروش وإسقاط الأنظمة وفضح الشخصيات البارزة بدأت السياسة حملة لينة مهادنة لترويضه وإخضاعه لإرادتها من خلال تحالفها مع المالكين والممولين لوسائل الإعلام. مع وعد برعاية مصالحهم وتبادل المنافع معهم. ووضعت للعبة التحالف تلك قواعد ومنظومات عمل ظاهرها حرية العمل وحق التعبير بصراحة وشفافية في مناخ ديموقراطي حر. وهو ما ينسجم مع الرسالة الأساسية للإعلام في صورتها المثلي. وباطنها تضليل الجماهير وتغييب وعيهم وتسييس إرادتهم لكسب تأييدهم ومناصرتهم للسياسات والقرارات التي يبدو ظاهرها بدوره مراعياً للمصلحة العامة ومعبراً عن إرادة الجماهير. ولكن جوهرها لا يغفل إن لم يعلم في عائده مصالح الممولين وتحقيق أهداف المتحالفين معهم من السياسيين. وفي لعبة التضليل الإعلامي تبدو مشاركة الجماهير وحريتها في التعبير عن الرأي قاعدة رئيسية في اللعبة. وهي تقدم لمشاركتهم وإبداء آرائهم بغلاف منمق ومزركش بمعسول الكلام ورونق الحديث وبما لايدع مجالاً للشك في حسن النوايا ونبل المقاصد. ويعتبر خبراء علم الاتصال وخاصة في مجال الإعلام أمثال الأمريكي باولو فرير إن ما يحدث الآن في اللعبة السياسية وقاطرتها الإعلامية ما هو إلا نوع من القهر الخفي والتطويع المزركش للجماهير التي تعد القوة الحرجة في منظومة الدولة. لضمان استسلامها وخضوعها وعدم إثارتها أو معاندتها. ومن ثم يسهل السيطرة عليها وتوجيهها لتحقيق الأهداف التي عادة ما تكون في حماس اللعبة خافية علي الجماهير. وفي ظل التقدم المذهل في تقنيات الإعلام أصبح يمثل في عرف القوي الحاكمة إدارة رئيسية ضمن أدوات القوات الناعمة "SOFT POWER) المستخدمة في تشكيل ما يعرف بالنظام العالمي الجديد "NEW ORDER) والذي تقود إدارته وتوجيهه الولاياتالمتحدةالأمريكية. في سعيها للانفراد بالقوة والهيمنة علي العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وخروجه من لعبة التوازن للقوي العظمي. وفي مخططات السياسة الأمريكية يلمح بين أطياف الحوادث والأحداث استخدام الإعلام كأداة لتحريك الجماهير بديلاً عن تحريك الجيوش والأساطيل. والقوي المستهدفة هي الكيانات القومية التاريخية التي يكمن فيها بصيص من خطر آني أو محتمل يمثل تهديداً لمصالح الولاياتالمتحدة وحلفائها. وذلك باستخدام جاذبية الإعلام وإبهاره الكامن في الصورة الملونة لتقليب الجماهير واستشاطة غضبها ودفعها لتغيير أنظمتها والتمرد علي حكامها ومؤسساتها بدعاوي الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان. وتلك الدعاوي بالإضافة إلي امكانية شن حرب آمنة محمودة العواقب علي غرار ما حدث في أفغانستان والعراق تمثل جوهر ما يعرف بالفوضي الخلاقة التي يتبناها شياطين السياسة في الولاياتالمتحدة وإسرائيل. وهي السياسة التي تسبب في وقتنا الحالي تلك الفوضي العارمة في المسرح السياسي العالمي وخاصة في منطقة الشرق الأوسط. والتي ندفع نحن شعوب المنطقة المنكوبة ثمنها من أمننا واستقرارنا. ويتصاعد التهديد حولنا عبر وسائل الإعلام التي تحاصرنا ليل نهار في الداخل والخارج بسيل هائل من الشائعات والجدل العقيم المتحدي لسلطة الدولة والساعي إلي اقتطاف جزء من كعكة النظام الجديد. وفي الجدل تضيع الرؤية ويتبدد الجهد وتظهر الحاجة للتدخل وإعادة تشكيل القوي التاريخية ودول المواقع الاستراتيجية بما يتوافق مع رؤية وأهداف المنتفعين وأصحاب المصالح الذين يضللون الجماهير بشعارات الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان. ويحركونها من وراء الستار عبر وسائل الإعلام لتنيب عنهم في تنفيذ مخططاتهم دون الحاجة لتحريك الجيوش ودفع الأساطيل.. فهل نحن منتبهون!.