خطواتها الواثقة في دنيا الشعر والرواية وتميزها غير المسبوق فيهما رغم القيود والمعوقات التي كانت كفيلة بتعطيل مسيرتها وأفول نجمها هذه الخطوات وتلك القيود تبطل حجج المتقاعسين والمقصرين في حق أنفسهم الذين يعلقون فشلهم علي شماعة الظروف والأخرين لتبقي دعوتي إليهم من هذه النافذة: أنظروا إلي نموذج ابنة الاسكندرية البارة "وفاء بغدادي" وكيف تحدت الصعاب حتي صارت اسما بارزا اليوم بين شعراء "العامية" ومؤلفي الرواية؟! عرفتني بنفسها قالت: أنا في منتصف الأربعينيات من العمر تخرجت في كلية الآداب شعبة "إعلام" وحاليا استعد لمناقشة رسالة الماجستير وموضوعها رؤية السينما لذوي الاحتياجات الخاصة بصفتي واحدة منهم وأحس بأوجاعهم.. وفي الحقيقة اشعركم انني محظوظة فقد نشأت بين أبوين يتفهمان جيدا قدراتي ويسعيان علي تنميتها وأخص بذلك أمي رحمها الله التي لمست موهبتي في شعر "العامية" فشجعتني علي الالتحاق بقصور الثقافة ومسابقات وزارة الشباب والرياضة وغيرها.. وفي المدرسة كانت اللحظة الملتبسة ففي أثناء حصة العلوم انشغلت عن شرح "المدرس" بتسجيل بعض الابيات في كشكول المادة لكنه فاجأني بطلب الكشكول والاطلاع علي ما كتبته ثم طالبني بالوقوف والذهاب معه!! وقتئذ ظننت أن العقاب في انتظاري لا محالة الا انه خاب ظني حين رأيت "مدرس العلوم" يقابلني بأستاذ اللغة العربية ويوصيه بي خيراً. وعمل الاستاذ بالوصية ليرشدني بمن دلني علي الطريق الذي من خلاله أصقل موهبتي ويسطع اسمي. بفضل الله ثم بفضل أمي وهؤلاء الأساتذة الأجلاء كان انطلاقي في عالم الشعر والرواية من خلال مسابقات وزارة الشباب والرياضة في البداية والتي حالفني التوفيق فمع أول مسابقة اتقدم اليها علي مستوي الجمهورية عام 1994 بحصولي علي المركز الأول عن قصيدة بعنوان "من ابن لأب مغترب" وكان التحدي بكيفية الحفاظ علي هذا المستؤي ونجحت في ذلك والحمد لله فلم اتراجع عن المركز الأول في 12 مسابقة!! لدرجة انها صارت مزحة بين زملائي المتنافسين بأنه كلما وجدوا اسم "وفاء بغدادي" مسجلا في مسابقة علمنا مقدما أن المركز الأول ضاع علينا!! تواصل: توفيق صادفه توفيق آخر باعتمادي كشاعرة بالاذاعة والتليفزيون واختياري عضوا باتحاد الكتاب وبات الجميع يتحمس لطبع دواويني ومنها ديواني الأول "زي الحقيقة" الذي كانت النسخة الأولي علي نفقتي والثانية علي حساب الشباب والرياضة التي شاركت أيضا مع اتحاد الكتاب في طبع ديوان "مش ملك حد" ثم توالت الدواوين والروايات وأشهرها "البنت إللي بتشوف الملايكة" وأعكف حاليا علي طبع رواية جديدة عنوانها "م.م.أ" وتعسف المجتمع مع أصحاب الظروف الخاصة. تمضي "بغدادي" قائلة: لا استطيع الاستمرار في الحديث عن تميزي في شعر العامية والرواية بمعزل عن "ايقونة عمري" وهي أمي التي شملتني برعاية من نوع فريد رغم انني ابنتها الوسطي بين ستة ابناء يتقلدون اليوم أفضل المناصب لقد غرست في ست الحبايب معني الثقة بالنفس. ثقة تحمل رسالة للآخر بأن ظروف اعاقتي- وهي في القدمين- لا تمثل عندي مشكلة بل المشكلة عندك أنت. ثقة جعلتني أتوقف عن استخدام سيارتي المجهزة لاستمتع بالجلوس علي مقعدي المتحرك والتجول به في شوارع الاسكندرية والنظر في وجوه الناس التي اشتاق لرؤية ملامحهم الطيبة.. وصفائهم النفسي. أمي المتعلمة أو "تربية الاذاعة" كما كانت تلقب نفسها ظلت محط تقدير كل اساتذتي فكان مسموحا لأم "وفاء" فقط الدخول من باب المدرسين لذا كم سعدت عندما جعلني الله سببا في اختيارها "الأم المثالية" من جميعة الكتاب والأدباء لعام 1995. والدتي التي مررت معها بموقف لن يمحي من ذاكرتي ما حييت موقف حرصت علي تصويره في رواية من رواياتي بعنوان "الموتي لا يرتدون الأحذية" فعندما فاجأنا زلزال 1992 هرع جميع سكان العمارة من شققهم وأسرعت أمي لتحملني رغم وزني الثقيل- بين ذراعيها وأخذت تهبط بي درجات السلم بصعوبة حتي خارت قواها وجلست بجاني لننتظر معا المصير لكن الله سلم!! نعم أمي ثم أمي التي لم تمنعها غيبوبة التي ظلت معها كثيرا من أن تردد اسمي فقد اختارني الله لأكون بجوارها حتي آخر لحظة في حياتها لظروف سفر كل أخوتي بالخارج.. فلم أكتف باحضار جليسة لها بل حصلت علي تفرغ من عملي لأظل تحت قدميها أقبلها.. مرددة بصوت عال: "ماما الجنة هنا" عسي ان تفيق من غيبوبتها وتجيبني.. حتي تحقق الرجاء قبل وفاتها بأيام حين نطقت: "الحمد لله" فقلت لها: "لمن تتركيني"؟! ردت: لربنا يا ابنتي!! باختصار سيدتي.. استطاعت أمي أن تخرج بمهارة الطبيب النفسي الذي بداخلي والذي لا يخرج إلا وقت الحاجة وهو الايمان.. رحمها الله. انتهي الكلام مع شاعرة الاسكندرية التي قدمت ليس فقط نموذجا في الصبر والتحدي انما في وفائها الكبير بوالدتها سواء في حياتها أو بعد وفاتها.. فهل يفيق الابناء الغافلون والمقصرون نحو أمهاتهم ليتعلموا من وفاء بغدادي التي بحق "اسم علي مسمي".