لا أدري كم من الضحايا سوف يسقطون في كوارث عبارات النيل المتهالكة حتي تستيقظ الأجهزة المسئولة من نومها العميق.. وتتخذ موقفاً جاداً وقاطعاً لإنهاء هذه المهزلة بشكل حاسم.. إما بحملات مستمرة علي تلك المعديات وإعدام ما لم يعد صالحاً منها للاستخدام الجماعي.. أو إقامة جسور "كباري" حديدية للمشاة علي النيل وإلغاء المعديات نهائياً.. وإزالة هذا العار الذي يشوه وجه مصر إنسانياً وحضارياً. لم تعد مجدية تلك الفورات التي تنتابنا كلما وقعت كارثة.. حيث تتعالي الصيحات والتصريحات وتتوالي الوعود إلي أن تهدأ الفورة ثم تعود الأمور إلي رتابتها وكأن شيئاً لم يكن.. تكرار الحوادث بنفس الوتيرة جعل أي تصريحات وأي وعود فارغة من المضمون.. ولذلك لابد من تغيير جذري في طريقة التعامل مع مثل هذه الكوارث.. كل المسكنات والمهدئات فشلت.. ولم يعد أمامنا غير التدخل الجراحي المباشر والسريع. في سبتمبر الماضي أحالت النيابة الإدارية سبعة من قيادات الهيئة العامة للنقل النهري للمحاكمة العاجلة بعد أن أثبتت التحقيقات إهمالهم الجسيم في أداء وظائفهم مما ترتب عليه تصادم مركب الوراق مع صندل نيلي في يوليو الماضي وأسفر الحادث عن غرق المركب ومصرع 40 شخصاً. ومع بشائر العام الجديد فجعت مصر بكارثة غرق معدية سنديون التي تربط بين قريتي ديروط التابعة لمركز المحمودية بمحافظة البحيرة وسنديون التابعة لمركز فوه بمحافظة كفر الشيخ مما أدي لوفاة 15 شخصاً من أهالي القريتين.. وكما هي العادة تم فتح تحقيق "عاجل" للتأكد من وجود شبهة إهمال من جانب المختصين بالرقابة النهرية ومسئولي التراخيص والتفتيش علي المراكب النيلية. وما حدث في الوراق وسنديون قابل للتكرار في العديد من القري والمناطق التي تعتمد علي المعديات النيلية.. يستوي في ذلك الصعيد والوجه البحري.. الكارثة تهدد الجميع في ظل الإهمال واللامبالاة من جانب الأجهزة المسئولة عن التراخيص والمتابعة.. ومن يقرأ الحكايات التي تحدث بها أهالي القريتين المفجوعتين أخيراً ديروط وسنديون لن يصدق حجم البؤس والشقاء الذي يعيشه هؤلاء المحرومون من أبسط الخدمات الإنسانية. الصورة التي رسمتها حكاياتهم للصحف ووسائل الإعلام تمزق القلب حزناً وألماً علي أناس يطحنهم الفقر والمرض ويحاصرهم التلوث من كل جانب كما لو كانوا يعيشون في العصور الوسطي.. وقد رصدت "المصري اليوم" أمس الأول الأحد الأحوال المأساوية التي يعيشها أهالي قرية سنديون.. حيث يعانون من الإهمال والتجاهل الذي ينبئ عن نفسه في كل شيء.. ولم يفلت منه مبني الوحدة المحلية المتهالك الذي تظهر منه أسياخ حديدية أكلها الصدأ.. وبجواره أكوام من القمامة المتعفنة. النيل ملوث بالأقفاص السمكية والأسماك النافقة وبالنفايات الآتية من مصانع كفر الزيات.. ومحطات مياه الشرب تأخذ من هذه المياه الملوثة بالدجاج النافق والبيض الفاسد ومخلفات الذبائح وغيرها من القاذورات التي يلقي بها لتغذية الأقفاص السمكية. يضاف إلي ذلك أن التيار الكهربائي دائم الانقطاع معظم ساعات الليل والنهار والشوارع مظلمة.. والقرية محرومة من الصرف الصحي.. ويتم إلقاء الصرف الصحي الخاص بها في المصارف الزراعية.. والشوارع تحولت إلي بحيرات راكدة من المجاري.. ولابد أن تركب توك توك للتنقل من منزل لآخر بسبب الأوحال التي تحاصر المنازل.. كما أن المخابز معطلة لانقطاع الكهرباء.. والناس لا تجد الخبز لأسبوع كامل.. ويعبرون النهر للحصول علي الخبز والدواء.. حيث إن الوحدة الصحية لا توجد بها أدوية أو أطباء.. وليس بها سيارة إسعاف. في بيئة كهذه.. هل تتصور كيف يعيش الأهالي؟! إنهم يقولون: "ياناس حرام عليكم.. والله إحنا مصريين زيكم.. لا نطلب غير الرحمة لهذه القرية المنكوبة".