مما ينسب لشاعر العربية الأشهر "المتنبي" قوله في رثاء والدة صديقه وراعية سيف الدولة الحمداني: "لو كان النساء كمن فقدنا.. لفضلت النساء علي الرجال".. ثم جري بمرور الزمن تحوير الشطر الأول من البيت ليصبح قولاً مأثوراً مثل كثير من أبيات المتنبي يطلق علي السيدات اللواتي منحهن الله جل شأنه عقلاً وعلماً ورشداً وعزيمة فيقال: "لو كانت النساء كمثل هذي.. لفضلت النساء علي الرجال". وقد سمعت هذا البيت بعد التعديل لأول مرة في أحد المؤتمرات من العالم الجليل الشيخ محمد الغزالي رحمه الله يمتدح به الدكتورة نعمات أحمد فؤاد أطال الله في عمرها وكانت خارجة للتو من معركة هضبة الهرم التي تحدت فيها جبروت السلطة وفسادها لكي تمنع الاعتداء علي المنطقة الأثرية لصالح رجال الأعمال وانتصرت إرادتها. وبالأمس كنت أقرأ في إحدي صحفنا خبراً تناول المستشارة الفاضلة نهي الزيني ومدي القبول الشعبي لتعيينها في منصب "المحافظ" فقفز إلي ذهني علي الفور بيت المتنبي بعد تعديله وكما سمعته من الشيخ الغزالي: "لو كانت النساء كمثل هذي.. لفضلت النساء علي الرجال". يقول الخبر: "كشف مصدر حكومي مطلع عن ترشيح المستشارة نهي الزيني نائب رئيس هيئة النيابة الإدارية ضمن 4 سيدات لتتولي واحدة منهن منصب محافظ.. مشيراً إلي أن هذا الترشيح يأتي في إطار رغبة الحكومة التأكيد علي دور المرأة في المجتمع.. وقال المصدر الذي طلب عدم ذكر اسمه إن هناك بعض العقبات أمام هذه الرغبة.. منها الرفض الشعبي المتوقع في بعض المحافظات لتولي امرأة منصب المحافظ.. خاصة في محافظات الصعيد. ولاشك أن من يعرف السيدة المستشارة نهي الزيني ويقرأ هذا الكلام سوف يصاب بالدوار.. لأن الذين مازالوا يقارنون بين الرجل والمرأة لابد أنهم يعيشون خارج التاريخ.. فالدنيا تتطور وتتغير من حولنا.. والعقول تستنير يوماً بعد يوم.. ناهيك عن أن المستشارة نهي الزيني ليست كأي امرأة.. وإنما هي امرأة بألف رجل. كان أول ظهور لها علي سطح الحياة السياسية شهادة حق قالتها وأثبتتها.. وقلبت بها الأجواء في مصر رأساً علي عقب.. وأكدت أن في مصر عقولاً وضمائر مازالت يقظة وقادرة علي أن تصدع بالحق في وجه التزوير والطغيان. ففي أعقاب انتخابات مجلس الشعب عام 2005 صحت مصر علي مقال بديع كتبته المستشارة نهي الزيني عن وقائع التزوير في دائرة دمنهور حيث كانت تشرف علي لجنة فرعية هناك.. وكان يتنافس في تلك الانتخابات الدكتور مصطفي الفقي مرشح الحزب الوطني في مواجهة مرشح جماعة الإخوان الدكتور جمال حشمت.. وعندما قرأت هذا المقال التقرير هتفت: الله أكبر وتحيا مصر. وعندما أعلن القاضي العام للجنة الفرز فوز الدكتور الفقي كانت مصر كلها تهتز لكلمات نهي الزيني التي جاءت كالرصاص المصبوب.. ولم تخش سطوة الحزب الوطني.. ولم تنظر لما سيصيبها في سبيل الحق. لم يكن الأمر سهلاً بالطبع.. فقد تعرضت بالفعل لتحرشات سياسية عديدة وسخرية واتهامات باطلة.. لعل أقلها شأناً اطلاق شائعة تربط بينها وبين الإخوان المسلمين. بعد هذا الظهور القوي تحولت المستشارة نهي الزيني إلي رمز للصدق والضمير ومقاومة الفساد والتزوير وقوة الشخصية.. وتم تسليط الأضواء علي نضالها المتحضر من أجل استقلال القضاء وحقوق المرأة في اعتلاء منصة العدالة.. واهتمامها بالأدب وبالإبداع.. فقد قدمت للمكتبة عدة روايات ومجموعة قصصية منشورة لا تخلو من الهم السياسي. وعندما وقعت جريمة نجع حمادي أثناء قداس عيد الميلاد وراح ضحيتها 7 قتلي و9 مصابين تسلحت نهي الزيني بروح القاضي وذهبت تتقصي الحقيقة بنفسها هناك.. قابلت المكلومين والكهنة والمسئولين وعايشت الأمر علي الطبيعة ثم أعلنت شهادتها بلا رتوش قائلة: "إنها جريمة طائفية وجنائية ناتجة عن تحريض مؤكد وتورط فيها رجال حركتهم شهوة النفوذ والمال". كما سافرت بوحي ضميرها إلي غزة تقابل المحاصرين ابتداء من رفح جنوباً ثم صعدت إلي جباليا وبيت حانون شمالاً. ولا يمكن أن أنسي أبداً ردها النبيل علي شيخ الأزهر الراحل الدكتور طنطاوي عندما هاجم فتاة منتقبة في معهد أزهري أثناء إحدي زياراته فقالت له الزيني منتقدة بشدة: "إنك فظ القلب".. كما هاجمت الوفد المرافق له قائلة: "ليس بينهم رجل رشيد يرد عليه". مثل هذه السيدة القوية الرقيقة يمكن أن نشفق عليها من منصب المحافظ.. ولكن هذا المنصب من حقها ومن حق مثلها من النساء الفضليات اللواتي منحهن الله القوة والرشد والنضج العقلي.. أما أن يقال إن هناك تخوفاً من الرفض الشعبي لها ولمثيلاتها فإن هذا معناه أننا مازلنا نعاني من مرض التخلف العقلي.. وعلينا أن نعالج أنفسنا بسرعة.