انتهي تقرير أعده معهد دراسات الشرق الأدني في الولاياتالمتحدةالأمريكية إلي أن الوضع الآن في مصر تتنازعه ثلاث قوي كبيرة هي المجلس العسكري والتيار الإسلامي وأنصار الدولة المدنية الذين أشار إليهم التقرير بوصف المتظاهرين من غير التيار الإسلامي الذي ركز التقرير فيه علي "الإخوان المسلمين" بوصفهم الفصيل الأكبر والأكثر خبرة سياسياً في هذا التيار. أشار التقرير إلي أن هذه القوي الثلاثة تعيش بين حالة تحالف ثنائي بين طرفين من أطرافه ضد الطرف الثالث بالتبادل حيث تحالف الجيش مع الإسلاميين ضد المدنيين فيما يتعلق بمعركة الانتخابات أولاً أو الدستور أولاً بينما تحالف الجيش مع أنصار الدولة المدنية ضد الإسلاميين فيما يتعلق بوثيقة المبادئ فوق الدستورية. كما تحالف الإسلاميون مع أنصار الدولة المدنية ضد الجيش فيما يتعلق بكثير من مطالب الثورة التي لم يستجب لها الجيش بعد.. مثل سرعة محاكمة أركان النظام السابق وقتلة الثوار وتطهير أجهزة الدولة المختلفة من فلول الحزب الوطني وأتباع مبارك الرئيس المخلوع أو الابن الموجود بسجن طرة. أكد التقرير أن المد والجزر بين هذه القوي الثلاثة للفوز بثمار الثورة يهدد فرص نجاحها في تأسيس دولة ديمقراطية حديثة بإمكانها تغيير الكثير من موازين القوي بمنطقة الشرق الأوسط كله. ولاشك أن التقرير في مجمله يعد تشخيصاً صحيحاً بدرجة أو أخري للحالة في مصر ولكنه أغفل بقصد أو بدون قصد الإشارة إلي قوتين أخريين لهما تأثير ما علي توازن القوي في معادلات الثورة المصرية هما قوي الثورة المضادة بالداخل والخارج وبقية الشعب الذي يقف حائراً بين هذه القوي المتصارعة حتي ينتدب لحسم الأمر أخيراً من خلال صناديق الانتخابات بعد فترة تتراوح من شهرين إلي ثلاثة من الآن. ومما يعيب هذا التقرير أنه لم يفرق بين "الجيش" كمؤسسة وطنية يكن لها الشعب المصري بجميع طوائفه كل تقدير واحترام وبين "المجلس الأعلي للقوات المسلحة" الذي يقود الجيش من جانب ويلعب الآن دور السلطتين التنفيذية بشقيها الرئاسي والحكومي والتشريعية بغرفتيها المتمثلتين في مجلس الشعب ومجلس الشوري من جانب آخر وهو ما يعطي الشعب حق انتقاده دون أن يكون في ذلك مساس بالمؤسسة العسكرية أو الجيش علي حد تعبير التقرير الأمريكي. ويضاف إلي ذلك أن التقرير لم يتعرض من قريب أو من بعيد لقوة سادسة حاضرة في المشهد الحالي بمصر ونقصد بها الأخوة الأقباط وكذلك إحدي القوي الدينية الأقل حضوراً في المشهد ولكنها واسعة الانتشار وأعني بها قوة الطرق الصوفية في مصر 80 طريقة حيث يبلغ أعداد تابعيها عدة ملايين وتعد بدرجة أو بأخري عامل توازن مع بعض فصائل التيار الإسلامي السياسي وخاصة الفصيل السلفي المناوئ لها منذ زمن خاصة أن هناك دلائل تؤشر إلي بداية تحرك سياسي لهذه القوة مثل تنظيم بعض المظاهرات أو تشكيل حزب سياسي أو أحزاب تحت التأسيس. وإذا جاز القول بأن التقرير اعتبر هذه القوة الأخيرة غير ذات تأثير أو من بقية الشعب فأعتقد أنه لا يجوز أبداً تجاهل تأثير الوجود القبطي علي الساحة المصرية وخاصة أنه كان حاضراً ومؤثراً في المشهد المصري منذ الإرهاصات الأولي للثورة. وقد يكون ملائماً أن نضيف قوي أخري أصغر وأقل تأثيراً كالمؤسسة الدينية الرسمية الممثلة في الأزهر ووزارة الأوقاف وكذلك مؤسسات المجتمع المدني غير المحسوبة علي تيار من التيارات. والمؤكد أن الصراع أو التنافس العلني أو الضمني في جانب كما التحالف والتعاون الاستراتيجي أو التكتيكي بين القوي التي ذكرها التقرير أو أضفناها في هذا التحليل من جانب آخر يؤثر تأثيراً مباشراً علي فاعليات الثورة وما يمكن أن يترتب عليها من نتائج ستكون بكل تأكيد حاصل جمع وطرح وضرب وقسمة هذه المكونات التي تتفق جميعها علي إقامة دولة جديدة لم تتضح معالمها بعد علي أنقاض النظام السابق. والمؤكد كذلك أن ملامح الدولة القادمة ستعكس قدرات هذه القوي علي الاستفادة من الظرف الراهن بفاعلية متفاوتة سواء عكس ذلك حجمها الحقيقي علي الأرض أم لا إذ أن المسألة مسألة تأثير وليست مسألة حجم أي أنها كيفية وليست كمية. والملاحظة الأهم فيما يحدث علي أرض الكنانة الآن أن الثورة بدأت بما يشبه التوافق الجمعي علي عدد من الأهداف العامة التي أنجز بعضها كالإطاحة برأس النظام السابق وأركان حكمه والكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية ثم بدأت الاختلاف حول التفاصيل شيئاً فشيئاً ثم تبلور هذا الاختلاف حول محور واحد تقريباً هو طبيعة الدولة القادمة. دينية أم مدنية مع تفاوت في الطرح الفصائلي بين الحد الأقصي والأدني لهذه الطبيعة سواء كانت دينية أم مدنية. فمن التيار الإسلامي هناك من يريدها دينية خالصة ومن يريدها مدنية بمرجعية إسلامية ومن التيارات الأخري من يريدها مدنية خالصة لا دور للدين فيها ومن يريدها مدنية تعترف بدور ما لدين الأغلبية العظمي من السكان. الإسلام. إعمالاً لمبدأ الديمقراطية ذاتها. والملاحظة التي لا تقل أهمية عن السابقة أن الأخذ والرد بين هذه القوي المتصارعة أو المتنافسة غالباً. المتحالفة المتعاونة أحياناً. بدأ يميل للعنف "الكلامي" وربما يتطرق إلي العنف "الفعلي" إذا استمر الأمر علي ما هو عليه لا قدر الله تعالي حيث لوحظ تبادل الاتهامات واسعة النطاق بين جميع الفصائل أو القوي وخاصة الثلاثة الأولي منها دون دليل وصلت إلي حد التكفير في الدين والتخوين في الوطنية ولم ينج من هذا المستنقع حتي المجلس العسكري الذي يدير الأمور. بل اتهم بضم الألف واتهم بفتحها وهذا يدلل علي افتقاد الجميع للحد الأدني من الشروط الموضوعية للحوار أو الصراع والتنافس السياسي. ونري أن الحل يكمن في التزام الجميع بأدب الحوار والشروط الموضوعية للصراع أو التنافس من جانب والتمسك بما يمكن وصفه بالثوابت الثورية أي الأهداف العامة الأولي التي طرحتها كل هذه القوي من جانب ثان واحترام موقف القوي الصامتة التي تمثل بقية الشعب من جانب ثالث باعتبارها الحكم الطبيعي والنهائي بين الجميع إذ لابد من ابتكار وسيلة ما للتعرف علي رأي هذه القوي واعتباره حاسماً في هذا الشأن ولو باستفتاء جديد حول نقاط الخلاف. وليعترف الجميع أن شرعيتهم حتي الآن محل شك كبير لأنها لم تختم بخاتم الشعب صاحب الحق الأصيل في اختيار الدولة القادمة إذ أنه ما من مستند لدي أي من هذه القوي يعطيها حق الحديث باسم الشعب وتمثيله وإدارة أعماله حتي لو كان ذلك بإعلان مبادئ دستوري لم يستفت عليه من قبل الشعب وهو الإعلان الذي صدر في 30 مارس الماضي وزادت مواده عن 60 مادة بينما لم يستفت الشعب إلا فيما يتعلق بثمانية مواد في الاستفتاء الذي أجري في 19 مارس. ليتواضع الجميع حتي يحكم الشعب ولنلتزم جميعاً بقاعدة أنه لا تكفير في الدين ولا تخوين في الوطنية كحد أدني وخاصة أن القوي المضادة للثورة تتربص بها داخلياً وخارجياً حتي لا تبدع مصر دولة قد تكون نموذجاً يحتذي في منطقة يرتع فيها الفساد والاستبداد منذ قديم. والحقيقة أن الحل الأمثل الآن هو الرجوع للشعب في استفتاء جديد لحسم كل قضايا الخلاف. مهما كانت تكلفة هذا الاستفتاء لأن البديل مرعب والجميع خاسر فيه. فهل نفعل ذلك أم أن البعض يريد هذا البديل المرعب ويدفع في اتجاهه ونحن نعطي الفرصة لتحقيق هذا الهدف الخبيث دون وعي؟ هذا هو السؤال.