* اليوم تلهج ألسنة الحجيج فوق عرفة.. وتذرف عيونهم الدمع رغباً ورهباً.. الكل يرجو عفو ربه وغفران ذنبه.. اليوم يذكرنا بخطبة جامعة ألقاها الرسول - صلي الله عليه وسلم - فوق عرفات في حجة الوداع.. وهي كلمات جديرة بالتأمل والتدبر والتطبيق.. يقول نبينا الكريم "أيها الناس اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً.. أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلي أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا وكحرمة شهركم هذا.. وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلغت.. فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلي من ائتمنه عليها. وإن كل ربا موضوع. ولكن لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون. أيها الناس اسمعوا قولي واعقلوه.. تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم وإن المسلمين إخوة فلا يحل لا مرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه فلا تظلمن أنفسكم".. فهل تعي جماعات الإرهاب والتطرف مقاصد الدين الحنيف وغاياته فيكفون عن الغي والضلال وسفك الدماء..؟!. هكذا وضع الرسول الكريم المبادئ وبين مقاصد الشرع في الحفاظ علي الكليات الخمس: النفس والعقل والعلم والمال والدين.. ولو أننا طبقنا تلك التوجيهات ما فسدت الفطرة وما وجدنا فساداً مستشرياً في كل جهة تدفع فاتورته الأجيال الحالية والقادمة. ولو أدي كل منا أمانته ما وجدنا بيننا إرهاباً ولا تنطعاً في الدين ولا جائعاً ولا متسولا ولا نهباً منظماً للمال العام. ولا وجدنا اعمالا شردتهم الخصخصة ولا تعليماً متدنياً لا صلة له بالإبداع والفكر. ولا وجدنا مسئولا يستغل نفوذه فيخلط العام بالخاص ويضيع حقوق الدولة والمواطن. هذا ما فهمه عمر من هدي الرسول الكريم وطبقه بعبقرية فذة. فأنتج عدلا هو مضرب الأمثال وهو الفريضة الغائبة. إذ كان يمنع عماله وولاته من الدخول في الصفقات العامة سواء أكانوا بائعين أم مشترين وكان يحصي أموالهم ليحاسبهم علي ما زادوه بعد الولاية مما لا يدخل في عداد الزيادة المعقولة. اعمالا لمبدأ "من أين لك هذا" ومن تعلل منهم بالتجارة لم يقبل منه دعواه. وكان يقول لهم: "إنما بعثناكم ولاة ولم نبعثكم تجاراً". ولما ظهر الثراء علي الحارث بن كعب بن وهب أحد ولاة عمر فسأله الفاروق عن مصدر ثرائه فأجاب: خرجت بنفقة معي فأتجرت بها.. فقال عمر: "أما والله ما بعثناكم لتتجروا" وأخذ ما حصل عليه.. ومن نصائحه رضي الله عنه للأحنف بن قيس حين ولاه بعد أن احتبسه حولا: "يا أحنف من كثر ضحكه قلت هيبته. ومن مزح استخف به. ومن أكثر من شيء عرف به. ومن كثر كلامه كثر سقطه. ومن كثر سقطه قل حياؤه ومن قل حياؤه قل ورعه. ومن قل ورعه مات قلبه".. رضي الله عن عمر وصحبه الكرام ورزقنا منهم الأسوة الحسنة. ليتنا نتخذ من خطبة الوداع ومن صحابة النبي ومن عدل عمر قدوة حسنة غابت للأسف عن مجتمعنا منذ عقود طويلة فابتلينا بالفاسدين وقديماً قالوا "إذا انشغل العلماء بجمع المال الحلال اتجه العوام إلي الشبهات. وإذا طار العلماء يأكلون الشبهات صار العوام آكلين للحرام.. فبمن يقتدي الناس.. وإذا غابت القدوة الحسنة كان طبيعيا أن يضرب الفساد بجذوره في ضمير المجتمع ومن ثم فلا مفر من عودة القدوة وصلاح الاخلاق.. فإنما الأمم الاخلاق ما بقيت.. فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا!.