من النعم العُظمي الذي اختص الله بها شريعةَ الإسلام أنها شريعة وسط لا إفراط فيها ولا تفريط. وأن أحكامها وتشريعاتها في كافة المجالات قد جاءت في المقام الأول لتحقيق مصالح العباد في الدنيا والآخرة لا لمجرد المشقة والعنت والتضييق والامتحان. ومهما حاول بعض المتشددين أن يُلبس الإسلامَ ثوب التَّشدُّد والتنطع لوجده ثوبا ضيقا كئيبا لا يليق بعظمة الإسلام ورحابته واتساعه وشموله وصلاحيته لكل زمان ومكان. والناسُ اليوم بحاجة إلي الترفق بهم والتيسير عليهم نظرا لتعقد ظروف الحياة وثقل المشاق وكثرة الأعباء التي تواجه كثيرا من المكلفين. فمن المناسب جدّيا للإنسان الذي يطرق باب ربه ويسعي في مرضاته متجنبا للحرام متحريّا للحلال أن يكون الفقه بل والفقيه المجتهد الواعي العالم بزمانه معينا له علي الالتزام بأحكام الله تعالي لا منفرا أو صادّا له عن سبيل الله تعالي. روي الإمام البخاري عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه . قَالَ : قَالَ رَجُلي : يَا رَسُولَ اللَّهِ . لَا أَكَادُ أُدْرِكُ الصَّلَاةَ مِمَّا يُطَوِّلُ بِنَا فُلَاني . فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّي اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْعِظَةي أَشَدَّ غَضَبيا مِنْ يَوْمِئِذي . فَقَالَ : "أَيُّهَا النَّاسُ . إِنَّكُمْ مُنَفِّرُونَ . فَمَنْ صَلَّي بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ . فَإِنَّ فِيهِمُ الْمَرِيضَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ " . وفي سنن أبي داود عن عطاء عن جابر قال خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه ثم احتلم فسأل أصحابه فقال هل تجدون لي رخصة في التيمم فقالوا ما نجد لك رخصة وأنت تقدر علي الماء فاغتسل فمات فلما قدمنا علي النبي صلي الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب شك موسي علي جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده. ومن مقاصد التشريع العليا في شرعة الإسلام والتي اقتضاها مبدأ التيسير هو درء المفاسد وجلب المصالح علي عباد الله المكلفين. فالتشريع في الإسلام كما ذكرنا ليس مجرد ابتلاء وعنت ومشقة يُلقي بها علي عواتق المؤمنين المكلفين دون هوادة ولا رحمة. وإنما هو في المقام الأول منظومة من القيم الأخلاقية المتوازنة التي تراعي مصالح العباد عامة كانت أو خاصة وترفع عنهم الحرج والمشقة. وتدرء عنهم كل مفسدة في الدين أو الدنيا معا. وتقدير المصلحة التي تغياها الشارع الحكيم وكذلك إدراك أوجه المفاسد التي قصد الشرع إلي إبطالها وإلغائها ليس أمرا هينا يستطيعه كل أحد عالميا كان أو عاميّا. وإنما هي رتبة العلماء الراسخين في العلم المتمكنين من إدراك مقاصد الشرع الشريف. وتتكون هذه الملكة من كثرة الممارسة والمعايشة والتعمق في فهم الأحكام الشرعية وعللها مما يولد الملكة الفقهية التي تمكن الفقيه المجتهد من إدراك أوجه المصالح والمفاسد في الوقائع والنوازل والمستجدات المختلفة.