مهما كبر الوطن علي الخريطة. يبقي بالامكان ان تحتويه بداخلك.. هو صغيربحيث يسعه البيت والصدر والقلب.. حتي مشاكل الوطن هي ذات المشاكل التي قد تدب داخل الاسرة الواحدة والقرية الصغيرة في المكان النائي البعيد عن الاهتمام والذاكرة والرؤية. في قريتي.. مرتع الصبا وملاذ الروح.. لم تعد الصورة كما كانت بل اكتست بثوب الزمن الذي لايرحم. وتجسدت فيها هموم الوطن بصورة اشد وأعتي فخارج اطار "نديبة" وهذا اسمها قد يتحرك الزمن للامام لكنه فيها ينطلق منذ عقود طويلة للخلف. وفي طريقة للوراء لايري السائق شيئاً فيطحن الاحلام ويطحن الخضرة ويترك علي الوجوه نقوش يأس تعددت خطوطها وصنعتها سنوات طويلة من الاحباط والفساد والتردي الذي ضرب كل شيء في القرية وامتد حتي جذورها. وعلي الرغم من انها اكبر قري مركز دمنهور فإن لعنة قديمة حلت عليها. لاتزال تدفع ثمنها ولا تدري إلي متي. مثلما لاتدري ماذا فعلت للمحافظين والمسئولين كي ينتقموا منها هذا الانتقام القاسي الذي لايتوقف. زمان.. حين كنا صغاراً. شببنا علي قرية بدا انها تتحرك للامام.. زارتنا الكهرباء في اواخر السبعينيات.. كان لدينا مستشفي به اطباء وبه معمل وصيدلية وقسم داخلي للعمليات الجراحية البسيطة.. وفي القرية ايضاً كان هناك مكتب للبريد واسعاف.. كان هناك شيء.. شحيح -اي نعم- لكنه كان عنواناً لامل يكبر في نفوس الناس بأن الحال قد يتبدل وبأن حالنا كحال مصر كلها التي عبرت واستردت سيناء وبعدها ستلتفت -في عبور داخلي- لاسترداد القري التي طواها الحرمان. لكن صبر "نديبة" طال والادهي ان مسيرة القرية كحال قري كثيرة غيرها. اتجهت للخلف وبايقاع اسرع. وطوال سنوات لاحقة. لم يبق من المستشفي سوي اطلال وارقام لاحصر لها من الاطباء والممرضين والعاملين والاداريين.. لا احد يراهم ولا احد يزورهم.. لم تعد هناك اسعاف ولاشيء.. لم يعد هناك سوي البوم والفساد الذي يستشري ويكبر يوماً بعد يوم.. سحق اجيالاً كثيرة لم يعد في الامكان الآن أن تقنعها ان هناك أملاً. منذ سنوات واثناء رئاسة عاطف عبيد للوزارة قالوا انهم طوروا المستشفي. وجاءه رئيس الوزراء لافتتاحه ولانذكر من المشهد سوي انهم غطوا مدخل القرية بالقماش كي لاتؤذي مناظرنا نفوس الزوار من "كبارات مصر" ولانذكر سوي انهم صبيحة الزيارة. استولوا علي كل ما جاءوا به من اجهزة ومعدات وحتي اجهزة التكييف اخذوها. وبقي المستشفي غير قادر علي نجده مريضه. يتخطفه الموت وهو في الطريق إلي دمنهور للعلاج من ازمة قلبية او اي مرض مفاجيء. نديبة الطيبة الصابرة كحال مصر.. لم ينصفها احد وبرغم عمرها المديد.. فمازالت تعيش الماضي بكل صوره.. لكنه ذلك الماضي المتخلف الذي تشاهده في افلام الابيض والاسود.. تلك التي تتحدث عن الطاعون والوباء.. نديبة التي تقف علي مقربة من دمنهور تشاهد المحافظين الواحد تلو الآخر منذ وجيه اباظة مرورا بكل من جاءوا بعده وانتهاء باللواء مصطفي هدهود.. يمرون عليها صباحاً ومساء وكأنها شبح او كأن القرية كلها تلبس طاقية الاخفاء. نديبة حالها من حال مصر.. ارهقها الفساد والتجاهل والحرمان. لكن داءها اشد. فما يحدث فيها اليوم جريمة.. ان تبقي بلا صرف صحي فتلك جريمة.. ان يشرب الناس مياهاً ملوثة فتلك جريمة.. ان يتخطف الموت ابناءها علي طرقات متهالكة وألا يجدوا من يغيثهم اذا داهمهم المرض وان تكون هي القرية الام بلا مدارس تليق بها فتلك جريمة.. نديبة شهادة فساد كبري لكل من عرف حالها ولم يتحرك لانقاذها.. اللهم قد بلغت.. اللهم فاشهد. ** ما قبل الصباح مسئول بلا ضمير.. ولاتنتظر منه الخير.