حينما تنفصل عن الواقع.. وتعيش في عالم غير عالمك.. وتناقش قضايا ليست قضاياك.. وتضع سياسات وتطلق تصريحات أنت أول من يعرف أنها لن تتحقق.. فأنت لا تضحك علي الناس.. وإنما تضحك علي نفسك. وكثيرون في هذه الأيام يضحكون علي أنفسهم.. وضحكهم واضح للعيان.. ضحكهم علي أنفسهم يضحك الناس منهم.. سأضرب مثالاً لذلك بما يحدث في وزارة التربية والتعليم التي يبدو أنها قررت أن تعلم أبناءنا أساليب الفهلوة والحديث بألف لسان والضحك علي أنفسهم. منذ بداية العام الدراسي والوزارة تطلق تصريحات قاطعة بأن الكتب وصلت المدارس كاملة وهي تعلم أن ذلك غير حقيقي.. وتتحدث الوزارة بيقين كامل.. وعلي كل المستويات.. بأنه لا زيادة في مصاريف المدارس غير الزيادة المقررة وأن أية زيادة ستؤدي إلي محاسبة المسئولين عنها.. وهي تعلم أن ذلك غير حقيقي. وفي كل عام تنفجر أزمة الوجبة الغذائية الفاسدة وكوب اللبن الفاسد والوزارة تعرف السبب في ذلك جيداً.. وتعرف المستفيدين من وراء الإصرار علي استمرار الوجبة الرخيصة واللبن الذي لا يطابق المواصفات أبداً لكنها لا تهتم بصحة الأبناء الذين يذهبون بالعشرات إلي المستشفيات من جراء التسمم.. وإنما تهتم أكثر بالعنوان غير الواقعي وغير الحقيقي.. بأنها توزع وجبة وكوب لبن.. رغم أن ضررهما أكثر من نفعهما. وتتحدث الصحف ووسائل الإعلام كل عام عن الغش الجماعي في الامتحانات.. والتلاميذ وأولياء أمورهم والمدرسون يعرفون ذلك جيداً.. يرونه رأي العين.. والوزارة تنفي وتتبرأ.. وتضحك علي نفسها. وبدلاً من التعامل مع الواقع الأليم في أزمة التعليم.. أزمة المعلم والكتاب والمدرسة.. أزمة عدم توافر مقاعد للتلاميذ.. أزمة الأبنية التعليمية التي تنهار علي رؤوس التلاميذ فتقتلهم تتحدث الوزارة العظيمة عن عالم آخر غير واقعي.. عن التأمين الصحي الشامل للتلاميذ.. عن المدارس الذكية.. عن توزيع "تابلت" لكل تلميذ.. كلام أشبه بأقراص الترامادول التي تخدر الأعصاب وتغيب الناس عن الواقع. في آخر زيارة لرئيس الوزراء المهندس إبراهيم محلب لإحدي المدارس بصعيد مصر في محافظة أسيوط علي ما أذكر تحدث مع بعض التلاميذ حول أهمية التابلت والإنترنت في العملية التعليمية.. فقاطعه تلاميذ آخرون وأصروا أن يسمع مشاكلهم الحقيقية بعيداً عن وهم التابلت والإنترنت. قال أحدهم: "إحنا 55 واحد في الفصل نستوعب إزاي؟!".. وقال آخر: "المبني بيقع علينا.. والزبالة حوالينا موجودة.. وكل ما حد ييجي يزورنا ينضفوها وبعدين يسيبوها".. وحين التفت محلب إلي البنات الصغيرات قلن له: "النور بيقطع".. فسألهم: "لغاية دلوقتي؟".. قلن: "آه.. بيقطع كل يوم". أعتقد أن هذا درس كبير من أبنائنا يعلموننا فيه كيف نفكر في واقعنا الحقيقي.. وليس الافتراضي.. وكيف تكون أولوياتنا بعيداً عن التزييف والفهلوة.. وكيف نطرح حلولاً واقعية.. ولا نضحك علي أنفسنا.