كثيرا ما يتردد أن المصريين هم الذين يصنعون فرعونهم.. لكن د. جمال حمدان في موسوعته "شخصية مصر " يعطينا تفسيرا آخر لنشأة ظاهرة الفرعون "الملك الإله" حيث يربطها بالنيل.. وبضرورة وجود قوة قادرة قاهرة توزع المياه وتضبط الري كما تضبط النظام مركزيا.. بل وتضبط الناس أيضا حتي لا يتحولوا إلي مجتمع فوضوي أو مجتمع الغاب. ففي بيئة الري النهري كان الوادي في فجر تاريخه مستنقعاً اسفنجيا من البحيرات والبرك.. ولكي تزرع وتعمر هذه المساحات الشاسعة كان لابد من مجهود بشري جماعي ضخم ومنظم حتي تعد الأرض لاستقبال البذرة.. ثم لا بذر حتي يتم توصيل المياه إلي الحقول.. أي لابد من شبكة من الترع والمساقي والأحواض لكي يتم توزيع حقوق المياه بما ينفع ولا يضر.. والمحصلة أنه بغير ضبط النهر يتحول النيل إلي شلال جارف وبغير ضبط الناس يتحول توزيع الماء إلي حرب دموية ويسيطر علي الحقول قانون الغاب. وفي ظل هذا الإطار الطبيعي يصبح التنظيم الاجتماعي شرطا أساسياً للحياة.. ويتحتم علي الجميع أن يتنازل طواعية عن كثير من حريته ليخضع لسلطة أعلي توزع العدل والماء بين الجميع.. وبذلك لا تكون الطبيعة وحدها سيدة الفلاح وإنما هناك بين الاثنين سيد ثالث هو الحاكم.. أي أن الفلاح لا يتعامل مع الماء مباشرة وإنما من خلال الحاكم.. أضف إلي ذلك أن البيئة النهرية كواحة صحراوية معرضة لأطماع وغزوات الرعاة البدو باستمرار وهذا في ذاته يستدعي تنظيما سياسيا قويا متماسكا في الداخل يعطي الحكومة سلطة قوية. وفي مصر القديمة علي وجه التحديد اعتبر الفرعون ضلعا أساسيا في مثلث الإنتاج إلي جانب الضلعين الطبيعيين الماء والشمس وليس صدفة أن كلا من هذه الأطرف الثلاثة قد عبد وأله: النيل "حابي" الشمس "رع" الفرعون "الملك الإله". يقول د. حمدان: إذا كان فرعون قد تحول إلي الملك الإله فذلك أساسا بصفته ضابط النهر الملك المهندس.. بل يري البعض أن حكومة مصر الفرعونية كانت أقرب إلي حكومة الفنيين. أي التكنوقراط ولم يكن غريبا بعد ذلك أن العقد الاجتماعي كان قائما علي الماء "أعطني أرضك وجهدك أعطك مياهي". ولم يكن غريبا بعد ذلك ان يكون الحكم الفردي المطلق. والأوتوقراطية العارمة. هي نظام الفرعونية الطبيعي.. وإذا قلنا الأوتوقراطية فقد اقتربنا كثيرا من جرثومة الطغيان.. فمن هذه السلطة المطلقة كنقطة ابتداء يكون الانحراف إلي بذرة الطغيان سهلا.. ولعل الحكم الأوتوقراطي المطلق قد أدي وظيفته في البداية وإلي حين.. حيث وضع أسس الحضارة وأرسي دعائمها.. غير أنه لم يلبث أن تعدي نفسه إلي القهر السياسي والاجتماعي حين أصبح موزع الماء هو مالك الماء والحاجز بين الرقاب هو المتحكم في الرقاب.. ثم صار الحاكم هو المالك الأوحد للدولة: الماء والأرض والناس. وفي عصر الإقطاع كان الاستغلال المطلق هو القاعدة.. فقد كانت السخرة والكرباج والتعذيب من وسائل الإرهاب.. وكانت تتدرج علي كل المستويات ابتداء من الحاكم إلي الباشا إلي العمدة إلي الخفير النظامي.. وتدهورت الفرعونية إلي دولة بوليسية تحمي الفرعون والإقطاع وتجعل الفلاحين أشبه بعبيد الأرض. وعلي جانب ذلك تعرض المجتمع المصري لتجارب قاسية من الضغط والقهر من المستعمر الأجنبي ابتداء من البطالسة وحتي الإنجليز.. وبهذا أضاف الاستعمار أسوأ ما في الطغيان الأجنبي إلي الطغيان المحلي وضاعف من انحرافه واتخذ منه عميلا له وأداة للإرهاب والكبت.. ومن هنا جاء اتهام مصر بأنها أرض الاستبداد والاستعباد. ويختتم د. حمدان هذا المبحث بالتأكيد علي أن النيل ليس هو السبب الوحيد للطغيان.. وهناك شعوب أخري أكثر بؤسا ليس لديها نيل.. ولكن النظام الطبيعي لهذا النهر العظيم كان في مصر أحد أسباب الطغيان.. لقد وجد فيه الطغيان نوعا من الضرورة وكذلك حجة وذريعة خاصة. وأكمل غدا إن شاء الله.