فوجئ الناس عند خروجهم من منازلهم صباح يوم الأحد 28 مارس سنة 1954 ليذهبوا إلي أعمالهم بعدم وجود مواصلات عامة تنقلهم.. لم يجدوا سيارات الأتوبيس ولا عربات الترام التي كانت منتشرة في ذلك الوقت. ولا قطارات السكة الحديد.. كل وسائل النقل العام متوقفة تماماً عن العمل.. فقد قرر العمال الإضراب العام والاعتصام والمطالبة بإلغاء قرارات 5 مارس.. لقد فضلوا الثورة عن الديمقراطية.. وخرجت المظاهرات تهتف: تسقط الديمقراطية وتسقط الأحزاب.. وأسقط في يد الشعب.. إن مصالحهم كلها ستتوقف.. كانت قرارات 5 مارس تقضي بعقد جمعية تأسيسية منتخبة. وتجتمع في شهر يوليو لمناقشة مشروع الدستور الجديد وإقراره. والقيام بمهمة البرلمان إلي الوقت الذي يتم فيه انعقاده. وإلغاء الأحكام العرفية. كانت هذه القرارات بمثابة المخرج من المأزق الذي صادف جمال عبدالناصر وأعضاء مجلس قيادة الثورة.. خصوصاً بعد أن ظهرت تيارات تنادي بإنهاء الثورة وعودة الضباط وقادة الثورة!!.. قيادة الجيش وبقاء الرئيس محمد نجيب رئيساً للجمهورية وعودة الحياة البرلمانية.. وعقد سلاح الفرسان اجتماعاً لإجبار عبدالناصر علي ذلك.. ويذكر خالد محيي الدين في كتابه "الآن أتكلم" أن عبدالناصر سقطت من يده السيجارة عندما فوجئ بتحركات للدبابات أثناء اجتماع ضباط الفرسان. فقد ظن أنها محاولة للضغط عليه وتهديده. ولكن أحمد المصري. أحد الضباط الأحرار في سلاح الفرسان طمأنه.. وانتهت هذه العاصفة وبدأت مرحلة الانتقام من الذين عارضوه واعتقل الكثير منهم. وخاف عبدالناصر علي مركزه.. بل وخاف أن يطير منه كرسي الحكم.. فهو يكره الديمقراطية وأعلن أنه إما الثورة وإما الديمقراطية.. وهو ومن قاموا بالثورة ليسوا سياسيين ولكنهم ثوار.. وأعلن أيضاً أن شعبنا لا يمكن تحمل مسئولية الحرية. وقد سبق للإقطاعيين أن اشتروا أصوات الناخبين قبل الثورة.. إن الشعب الذي لا يستطيع أن يتحمل مسئولية الحرية لا يمكن أن يستمتع بالحرية. ولم يهدأ جمال عبدالناصر. بل راح يفكر في تنفيذ خطة استمرار الثورة واستمراره هو علي رأسها. وبدأ بإجراء اتصالات بقيادات العمال. واستطاع ترتيب الأمر وحشد المظاهرات ودفع العمال إلي الإضراب. ولم يتكلف تنفيذ كل هذا إلا أربعة آلاف جنيه. بهذا المبلغ بقيت ثورة 23 يوليو وبقي عبدالناصر.. ويبدو أن الرئيس السابق ونظامه كانوا يؤمنون أيضاً بأن الشعب المصري لا يستطيع أن يتحمل مسئولية الحرية. ولا يستطيع الاستمتاع بها. ولهذا كبله بكل أنواع القيود تماماً كما فعل عبدالناصر عندما استقر به المقام بعد 28 مارس 1954 فملأ المعتقلات بآلاف المعتقلين من المعارضين أو المنتقدين وأعضاء الإخوان والشيوعيين. ونفس الحال فعل الرئيس السابق. فقد امتلأت سجون أمن الدولة بآلاف المعتقلين من كل الأطياف.. واختفي الكثيرون ممن تم اعتقالهم.. ليس هذا فقط. بل كان رجال النظام يقبضون علي المصلين في الجوامع عند صلاة الفجر أو العشاء.. ويعتقلون كل من كان يربي لحيته. كان الشعب يبحث عن حريته طوال 30 عاماً فلا يجدها.. تركوا الناس يتحدثون.. وهم يفعلون ما يريدون إلي أن تحطمت كل القيود يوم 25 يناير .2011