من المرات النادرة في تاريخ السينما المصرية ظهور ممثل طفل يلعب شخصية مرحلته السنية ويعبر المخرج من خلاله عن قضية حقيقية ترتبط بهذا الطفل نفسه ويطرحها في توقيت نموذجي وفي سياق اجتماعي لم يتعمد تحريفه أو تزويقه أو تزييفه ومن دون أن يغفل وظيفه الوسيط "الفيلم" باعتباره أداه للترفيه إلي جانب معالجة الواقع والوعي به دون اخلال بالقيمة الفنية. "هاني" "أحمد داش" بطل فيلم "لا مؤاخذة" لا يتشابه مع الاطفال المساخيط الذي اعتادت السينما إن تستخدمهم لاضحاكنا عبر مفارقات ضاحكة وفي مواقف يقلدون فيها الكبار. حتي الطفل في فيلم "بحب السينما" لم يكن استثناء عن هذا التوجه التجاري الترفيهي المعتاد! واللافت ذلك الاختيار الموفق جدا والذكي من قبل المخرج لهذا الصبي الموهوب الذي نراه من خلال مفارقه ولكن من نوع يخدم الرسالة المهمة التي تأتي ضمن رسائل كثيرة في هذا العمل المتميز والجرئ علي مستوي القضية والموضوع الذي يتصدي لمعالجته واعني قضية التعليم في مصر وتأثير البيئة التعليمية والاجتماعية الأسرية في خلق مواطن سوي ونافع يصلح للبقاء في عالم لن يكف عن الابتكار والاختراعات العلمية. وهاني بطل "لا مؤاخذة" من أسرة قبطية ميسورة ومتعلمة لأب يعمل مديراً في بنك وأم عازفة لآلة التشيللو في دار الاوبرا "كندة علوش".. ينتقل هاني بسبب موت الاب "هاني عادل" المفاجئ إلي مدرسة حكومية بعد أن تبين أن الاب مات مديوناً ودخل الام لن يكفي لتكاليف الاسرة التي اعتادت عليها. التلاميذ في المدرسة التي انتقل اليها هاني أشبه بالنمل في مملكة منهارة قيمياً وتعليمياً وسلوكياً. هكذا صورهم مدير التصوير والمخرج في بعض اللقطات العامة من زوايا مرتفعة وهم في فناء المدرسة وحين يتحلقون في تشكيلات موحية تذكرنا من اعلي بجموع النمل وأيضاً حين يظهرون داخل الفصول يشكلون مثل نبات شيطاني لم يتعهده أحد بالرعاية ولا بالتقويم يشيعون الفوضي ولا يبدون ذرة احترام للمدرس أو لبعضهم البعض. المدرس نفسه يظهر بقرن غزال يستخدمه في ترهيب التلاميذ!! التفاصيل في هذا العمل تشيع مناخاً عاماً يكرس التفاوت الكبير بين الغالبية العظمي من التلاميذ وبين هذا التلميذ "هاني" القادم من المدرسة الخاصة الدولية التي اسهمت إلي جانب الاسرة في صقل سلوكه وبناء عقله وذوقه وقدراته الابتكارية علي نحو طبيعي. الترجمة البصرية لما يريد المخرج ايصاله موضوعياً تطرح أسئلة ومعها اجابات واضحة يقويها السياق السردي وصوت الراوي "أحمد حلمي" واختيار كلمات الحوار الدالة الخالية من الابتذال رغم قدرتها التعبيرية في رسم الصورة غير السوية للتلاميذ داخل الفصل وخارجه. ويؤكد المخرج من خلال معالجته كمؤلف للفيلم أن علاقة التأثر والتأثير حتمية والمعادلة في نهاية الأمر ليست سلبية بالكامل حتي لا يضعنا والفيلم في حارة سد.. فالتلميذ ابن الاسرة الميسورة يرفض الهجرة إلي الخارج رغم اصرار الام ورغم الانتهاء من الاجراءات ويرفض الكلام بغير اللغة العربية بعد أن كان يلجأ إلي لغته الاجنبية أحياناً ويقبل التحدي ويعلن عن دخوله المسابقة الدينية وينجح ويطلع الأول ويقبله ثانية حين يقرر الاعلان عن هويته كمسيحي. وحين ينازل التلميذ الفتوة القوي ويغلبه الخ.. وأيضاً حين يواجه التمييز ويجتهد من أجل التماثل مع أقرانه والتعاون معهم في اختراع طائرة لعبة. لكن قضية "التمييز" الرئيسية التي يطرحها "لا مؤاخذة" لا تطول الاختلاف في مستوي التعليم والبيئة وبين "ابن الناس" وابناء العامة وانما وبشكل اساسي تتناول التمييز الديني وسيادة مشاعر التعصب الذي أصبح عفويا وقد يدفع إلي التطرف تلقائياً إلي درجة الوصول إلي ما نحن فيه الآن فعلا.. والقضيتان في المعالجة الذكية والبسيطة التي طرحها المؤلف المخرج عمرو سلامة. قضيتان مترابطتان بقوة. فأمام الجهل وانعدام الوعي وسيادة التخلف مع وجود الفقر ينتعش التعصب ويتغول التطرف.. التفاصيل في هذا العمل تبدأ من المدرسة والتعليم الاولي كما نري في عالم المدرسة الذي تابعناه في المدرسة مكان الاحداث "لامؤاخذه" يتم علي نحو مبسط أولي مراحل الارهاب عندما يمسك المدرس بالسكين كوسيلة للترهيب. وتتم مظاهر الاستقطاب فيما يشبه الفرق الصغيرة التي تمارس العنف ضد من هم أضعف وتبدو المدرسة لامؤاخذة بمثابة مفرخة أي مصنع تفريخ لرجال المستقبل. والدليل في الأب رجل الامن القابع في حوش المدرسة والنائم آبدا. أو الغافل عن سرقات التلاميذ وتخريبهم المتعمد لدراجة زميلهم الوافد إليهم من مدرسة وبيئة مختلفة. فهذا الرجل نفسه هو والد التلميذ الفتوة صانع الفوضي في الفصل وفي الفناء.. وهناك من يقومون بالتحرش والاعتداء علي المدرسة التي تبدو غريبة عن أجواء البيئة المدرسية بهيئتها وشعرها ومن ثم تبدو مثيرة. فالاجيال التي ربت هؤلاء التلاميذ أي أولياء امورهم ومنهم والد التلميذ أبوبكر هم بدورهم ضحايا هذا التعليم الحكومي الذي بدأ كارثة التراجع منذ حقب متوالية.. ناهيك عن ظروف المجتمع ومؤسساته الاخري قيمة الفيلم أنه حامل رسائل بطريقة فنية فالمخرج من خلال اعماله السابقة "أسماء" وزي النهاردة لديه ما يقوله وما يسعي إلي إيصاله بأخلاص وقد ثبت أن الجمهور يتلقي رسائله في حبور رغم اختلاف هذه الافلام عن تيار الانتاج السينمائي الدارج واختلاف اسلوب معالجتها عن الخط التقليدي الصاخب الزاعق بالطرب وهز البطن. فيلم "لا مؤاخذة" "جاد" و "هادف" رغم الدلالات السلبية التي ارتبطت بهاتين الصفتين. وأسارع بالقول أن الفيلم بالرغم من ذلك مرح وموفق جدا في تفاعله مع المتلقي وذلك بسبب اختياراته الفنية والموضوعية لمشروعه هذا الذي يعتبر الثالث في قائمة اعماله بدء من اختيار البطل - أحمد راش - الذي يمثل جيلا جديدا يغذي مشاعر التفاؤل بالنسبة لمستقبل مصر. ومرورا بباقي التلاميذ وتوفيقه في رسم العلاقات وإدارة الافعال وردود الافعال باقتصاد وعفوية ومن دون تكلف وبقدر كبير من المصداقية. ومن أصعب الامور بالنسبة لصناعة وطنية إنجرفت بقوة في اتجاه التجارة علي حساب الفن أن تطرح قضايا مهمة في أعمال فنية جريئة وتصوير صادق لقضايا حساسة مثل قضية القبطي والمسلم وأنهيار العملية التعليمية رغم أن المدرسة التي رأيناها في الفيلم تعتبر أفضل حالا بكثير من باقي المدارس الحكومية. لم اقتنع بمشهد الموت المفاجئ للأب علي النحو الذي صوره الفيلم إلا وربما في إطار كونه مجرد "حجة" أو حيلة" "Device" تبرر انتقال التلميذ هاني من مدرسته إلي مدرسة حكومية اختار لها المؤلف اسم "عمر بن الخطاب" في مفارقة عابرة مع ديانة التلميذ الذي شاء قدره أن ينتقل إليها. ولكن هذا التلميذ بديانته المسيحية يتفوق علي اقرانه المسلمين في المسابقة الدينية ويجود عند إلقائه لأسماء الله الحسني. في إشارة إلي امكانية التلاقي وتسفيه الحواجز التي تحول دونه. الفيلم بذكاء ونزعة فنية متحررة من التعصب نافرة من اشكال التمييز يسعي إلي تسوية الارض المشتركة بمحراث الفن ويلاقي بين المسيحي والمسلم داخل الكنيسة اثناء مناسبة اجتماعية مهمة مثل حفلات الأفراح. وداخل المدرسة في الفصل والفناء وضرورة أن يبدأ ذلك بارادة مجتمعية وسياسية. "لا مؤاخذة" فيلم بسيط ببلاغة اذا صح التعبير. لغته البصرية قوية بدون تكلف تتوالي احداثه بسلاسة وقدرة علي الاحتواء كبيرة ينقل أجواء الاسرة المتوسطة الميسورة بذوق سليم ومن دون مبالغة وبديكور ذكي ومناسب يشيع بيئة ثقافية وحميمية مشوبة بالأسي احيانا وينقل تفاصيل صغيرة انسانية في علاقة الابن باشيائه القريبة من نفسه. اجواء المدرسة وبيئتها الاجتماعية وعالمها عموما ينقله المخرج عبر انفعالات صبي حساس جاء مغتربا حاملا ديانة مخالفة للجموع داخل اسوارها. ايضا الاداء التمثيلي للكبار وناظر المدرسة "مسعد خطاب" بصفة خاصة وحتي الغفير النائم ظهر منطقيا ومقنعا. ** هذه النوعية من الافلام المعبرة بقوة وبصيرة نافذة تستحق الدعم "الحكومي" والدعم الجماهيري مثلما تستحق الاحتفاء النقدي وربما كانت هذه السطور تعبيرا عن هذا الاحتفاء.