أخيراً .. وأخيراً جداً .. كشف المستشار جودت الملط رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات النقاب عن ميزانية رئاسة الجمهورية.. بعد أن كانت من أشد الأسرار الاستراتيجية التي لا يعرف أحد عنها شيئا.. ولا يستطيع أحد أن يتناولها ولو همساً. ورغم أن المستشار الملط لم يعلن ملاحظات الجهاز علي هذه الميزانية بعد.. ولم يكشف إن كان بها مخالفات أم لا.. إلا أن مجرد الحديث عن ميزانية الرئاسة أو الحديث فيها يعد تطوراً مهما في حياتنا السياسية.. ففي عصر الديمقراطية لا شيء يجب أن يكون سراً علي الشعب إلا ما يتعلق بضرورات الأمن القومي.. وهو أمر استثنائي الهدف منه فقط حماية المصالح العليا للوطن والمواطن. قال المستشار الملط في تصريحات صحفية: إن ميزانية رئاسة الجمهورية زادت 13 مرة خلال حكم مبارك.. وقد بلغت عندما تولي الحكم 13.8 مليون جنيه خلال العام المالي 1980/ ..1981 وتدرجت إلي أن بلغت 252.6 مليون جنيه في العام المالي 2009/ .2010 أشار إلي أنه توجد صناديق وحسابات خاصة بالرئاسة .. منها صندوق الأنشطة الانتاجية والخدمية.. وبلغت موازنة العام المالي 2009/ 2010 لهذا الصندوق 1.2 مليون جنيه.. كما يوجد حساب المؤتمرات والخزانة الموحد وبلغ رصيده في 30 يوليو 2009 "14.5 مليون جنيه".. وأيضا يوجد حساب مجمع الأديان في سيناء وبلغ رصيده في 30 يوليو 2009 مليون دولار و576 ألف جنيه. وفي الحقيقة.. نحن لا نعرف شيئاً عن كيفية إنفاق ميزانية رئاسة الجمهورية ولا من المسئول عنها.. لكن المعتاد في النظم الفرعونية الاستبدادية أنه من الصعب الفصل بين ذمة الحاكم المالية وذمة الدولة.. فالفرعون هو الدولة والدولة هي الفرعون.. ولا أحد يستطيع سؤاله أو حتي الاستفسار منه عن أوجه الإنفاق. ولا أظن أن الجهاز المركزي للمحاسبات.. أو غيره من الجهات الرقابية العشرة التي أفصح عنها المستشار الملط قد واتته الشجاعة في عهد أي من الرؤساء الثلاثة السابقين ليراقب بدقة ويفحص المستندات ويسجل الملاحظات. من هنا.. فإننا نشك كثيراً في أن تأتي تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات بجديد فيما يتعلق بمراقبة الدورة المستندية ولوائح الصرف في ميزانية الرئاسة مثلما يحدث مع المؤسسات والهيئات العامة الأخري. لذلك .. فإن الوقت مناسب الآن للمطالبة بتدريب فريق عمل من شباب الجهاز المركزي للمحاسبات.. شباب الجيل الجديد الذي يتمتع بشجاعة الثورة.. لكي يقوم بمراقبة ميزانية رئاسة الجمهورية في المرحلة القادمة. ويجب أن يقال لهذا الشباب إن رئاسة الجمهورية احدي مؤسسات الدولة المصرية.. والرئيس موظف عام يحصل علي راتبه الشهري أو السنوي من دافع الضرائب الذي هو المواطن العادي.. لذلك من حق هذا المواطن أن يعرف.. وبالتفصيل.. كيف يتصرف رئيس الجمهورية في ميزانية الرئاسة التي هي منفصلة تماماً عن راتبه الشخصي. ويهمنا هنا ونحن نتحدث عن فصل ميزانية الرئاسة عن راتب الرئيس ومخصصاته أن نؤكد علي ضرورة أن يضمن الشعب المصري لرئيسه دخلاً محترماً يجعله في غني عن أن يمد يده للمال الحرام.. أو يمد يده إلي هبات أو منح من خارج الحدود.. أو ينتظر هدايا وعمولات.. بل يجب أن يوقع علي تعهد بأن يقدم أية هدايا أو عمولات إلي خزينة الدولة.. مثلما يحدث في الدول المحترمة. إذا أردنا حقاً أن نصون الدولة من الفساد فلابد من أن نصون رأسها.. ونحصن رئيسها من غواية المال.. فنحميه من نفسه ومن أولاده وزوجته.. ونحميه من أصدقاء السوء وبطانة الشر.. وهذا لن يتحقق إلا بأن توضع في الدستور مواد واضحة تجعل الرئيس مسئولاً أمام البرلمان وأمام الجهات الرقابية عن مصادر ثروته. لقد كانت الشفافية كلمة مثيرة للسخرية من كثرة انتهاكها واستخدامها للتمويه علي الفساد والمفسدين.. لكننا اليوم في حاجة فعلية لكي نطالب كل مسئول بتطبيق قواعد الشفافية.. ولن يتحقق ذلك إلا إذا كانت البداية برئيس الجمهورية. والحكمة الصينية القديمة تقول: "السلم لا ينظف إلا من أعلي".