أما الفراعنة فهم الحكام الآلهة.. الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد.. واستعبدوا العباد.. وحرموهم من حقوقهم وحريتهم.. ونحن نفاخر بأجدادنا قدماء المصريين الذين شيدوا أقدم حضارة عرفها التاريخ.. وبنوا الأهرامات والمعابد والقصور.. ونظموا الزراعة والري.. وانتصروا في المعارك.. وركبوا النهر والبحر. واتصلوا بالممالك القديمة فكراً وفناً وعمارة. لكننا أبداً لا نفاخر بالفرعون الإله.. الذي تعالي علي صفة الإنسانية التي فطره الله عليها.. وأسبغ علي نفسه القداسة والألوهية.. أو أسبغها عليه كهنته وحاشيته.. واستخف قومه فأطاعوه.. حتي بلغ به السفه أن يقول لهم: "ما علمت لكم من إله غيري".. ويقول أيضاً: "ما أريكم إلا ما أري وما أهديكم إلا سبيل الرشاد". وصدق الناس من فرط جهلهم.. ومن فرط ما ذاقوا من العذاب.. أن الفرعون هو الإله. أو ابن الإله. أو ابن الشمس. أو ابن السماء.. وبعد عن خيالهم أنه ابن أنثي.. حملت فيه ووضعته مثل كل نساء الأرض. ومع مرور الزمن ذهب الفرعون والفراعنة.. ولكن بقيت الفرعونية نظاماً للحكم.. ومنهجاً للحاكم.. دون اسمها الحقيقي.. فلم يعد أحد يدعي أنه الفرعون علناً أو يدعي أنه يحكم علي النمط الفرعوني.. وإنما يقول إنه ملك أو رئيس. عفواً.. قال الرئيس الراحل أنور السادات في أحد تصريحاته العلنية إنه وعبدالناصر آخر الفراعنة.. ولا أعرف إن كان بتصريحه الاستثنائي هذا قد قصد ما أقصده. أم كان يتحدث من باب الخيلاء للتأكيد علي أنه وسلفه أعلي من الدستور والقانون. كما كان الفرعون يضع نفسه فوق أي قواعد تحكم الدولة.. بل كان يعتبر مشيئته هي القواعد والدستور والقانون. وقد بدأ عبدالناصر حكمه شاباً قوياً متحمساً للإصلاح والتغيير والبناء وحقق إنجازات لا يمكن إنكارها.. لكنه تلاعب بالدستور لكي يكرس الفرعونية كنظام للحكم.. فتحول إلي حاكم فرد.. وصارت مشيئته الإلهية هي الدستور والقانون.. فهو الزعيم والقائد الملهم الذي تحرسه العناية المقدسة. وبدأ السادات حكمه رئيساً مؤمناً يسعي إلي الحرية والديمقراطية. وحقق إنجازات لا يمكن إنكارها.. ثم تلاعب بالدستور. وعاد بالمصريين إلي الفرعونية.. فانقلب حاكماً بأمره.. واجتمعت حوله حاشية من التابعين الأذلاء الذين يجيدون فن الرضوخ والتوسل لمشيئته المقدسة.. فقد صار الزعيم والقائد وكبير العائلة.. وكلها مفردات لا تخص غير الفرعون. وجاء مبارك إلي الحكم بسيطاً هادئاً متواضعاً.. جاداً في تجميع الصفوف والسعي نحو الإصلاح.. وحقق أيضاً إنجازات في بداية حكمه لا يمكن إنكارها.. خاصة في البنية الأساسية للدولة.. لكن سرعان ما أدركته لعنة الفرعونية.. وتحول الرئيس الموظف إلي زعيم وحكيم وقائد للنصر.. وبفعل طول المدة تمكنت الفرعونية منه وانقلبت إلي رغبة محمومة في ملك عَضُود له ولأبنائه من بعده.. وزين له الفاسدون من حوله أن الشعب لا يكل ولا يمل من التسبيح بحمده. حتي استيقظ الرئيس الفرعون الرمز علي الثورة!! وما أظن أن مصر الجديدة. مصر الديمقراطية. قادرة علي أن تتحمل فرعوناً جديداً.. فقد انتهي زمن الفراعنة وزمن الزعماء والرموز والحكماء والقادة أصحاب القداسة.. وبدأ زمن الرئيس خادم الشعب ومنفذ إرادته.. ولكي يتحقق ذلك علي أرض الواقع فلابد من إسقاط الفرعونية مع إسقاط الفرعون. يجب أن نقضي تماماً علي القواعد والقوانين والقيم التي تصنع الفرعون.. ونتخلص تماماً من ميراث التزلف للرؤساء بإسباغ الأوصاف المبالغ فيها عليهم.. وامتداحهم في المحافل بما لا يليق ولا يصدق مع الحقيقة. يجب أن نلغي من قاموسنا السياسي الألفاظ المخادعة مثل الزعيم والقائد والرائد وملك الملوك وأمين القومية العربية.. ولا نعترف إلا بالأوصاف التي يحددها الدستور. يجب أن نتخلص من الفرعونية حتي لا نصنع الفراعنة بأيدينا ثم نندم.