لم يكن يعلم أحد من أهالي القرية التي تتبع إحدي مديريات الصعيد أن ذلك الصبي الذي أصيب بفقدان البصر منذ صغره. ونشأ وتربي وسط عائلة شبه متوسطة الحال تزدحم بالأولاد الذين ينوء بحملهم والدهم فيسعي للرزق حتي يستطيع أن ينهض بمعيشتهم ويكفل لهم الحياة المستورة كما يقال دائماً بين أفراد الطبقة لم يكن يظن أحد أوحتي يتخيل أن ذلك الطفل في شبابه سوف يقيم الدنيا ويقعدها. يملأ الآفاق علماً غزيراً ونشاطاً فكرياً يثير حوله المناقشات بين مؤيديه ومعارضيه. ذلك الفتي الصغير الذي خلق عالماً يعيش فيه يتحدي الصعوبات ويقتحم المجهول لينير فيه كل جوانبه. ويضئ بعقله وفكره وخيالاته العالم الذي حوله ليكشف ما يبحث عنه ويزيل ظلام الجهل واليأس ويدمر ما يتوقع له المحيطون وكان أقصي ما يداعب خيالهم أنه مجرد مكفوف البصر ويحفظ آيات من القرآن ويتلقي بعض علوم الدين واللغة من كتب الأقدمين يحفظها كما هي وينقلها لمن يقدر له أن يلتقوا به في معاهد القري أو المدن الصغيرة في القطر المصري.. ولكن ذلك الفتي الطموح الذي يبصر بقلبه وروحه وعقله مشارف الحياة الناهضة فيسعي إليها ويتقدم بخطي متحدية ووثبات متيقظة ليملأ الفكر العربي بمناهج عشقها ومذاهب نقب فيها وبحث وتدبر ليلقي قارب فكره علي شاطئ اهتدي إليه واستراح ليواجه الدنيا بكلمته. ولايمكننا في هذه العجالة السريعة أن نتكلم عن مجمل أعماله أو حتي الإشارة إليها ولكننا نشير سريعاً إلي عملين مهمين مختلفين أولهما كتاب الفتنه الكبري بجزئيه. ذلك الكتاب الذي سحر عقولنا ونحن مازلنا دون العشرين وأثار إعجابنا بدقته. وما انتهي فيه إلي آراء في النزاع الذي نشأ بين المسلمين ومازال أثره في عالم الإسلام حتي الآن. عبر بأسلوب أدبي شائق عن حوادث تاريخية. أبدي آراء فكرية من الناحية السياسية ودفع بقوة مقولة أن الدولة في الإسلام دينية. ونفاها تماماً وانتهي إلي أن النظام السياسي في الإسلام نظام خاص. عماده الشوري وقوامه العدل والمساواة والحرية لكل أبناء المجتمع الإسلامي وذلك كله بأسلوب يجذبك ويمتعك بلا حدود حتي يعجب القارئ.. كيف اهتدي ذلك المتحدي إلي هذه التعبيرات الرائعة بلغة عربية يسهل فهمها ويعجز الآخرون عن الإتيان بمثلها. ولاعجب في ذلك فهو الذي أتقن لغته العربية وعشقها. وأتقن معها الفرنسية واللاتينية ولغات أخري متعددة. ثانيهما قصة دعاء الكروان فقد أعجبني ولفت نظري قول الأديب المبدع محمد جبريل في حديثه لي پإن الدكتور طه حسين قد كتب رواية دعاء الكروان في الثلاثينات متضمنة كافة النواحي الفنية التي تقوم عليها الرواية من حديث النفس ومناجاة ذكريات مرت وربطها باللحظة التي يعيشها أشخاص الرواية وكان حديث بطلة الرواية مع الكروان كلما مر مغرداً هو اتحاد الإنسان مع عناصر الطبيعة واتخاذها ملاذاً وصديقاً. ورائع ذلك الحديث مع هذا الطائر الجميل تبادله البطلة الشكوي والمكاشفة إلي آخر ما تحمله أنواع الروايات في العصر الحديث. ويوم أن قرأناها في بدايات حياتنا الثقافية ونحن مازلنا تلاميذ. في مرحلة الإعدادية بهرنا الخيال الرائع والتعبير الشاعري الذي كتب به طه حسين تلك الرواية ولقد استطاع المخرج المبدع هنري بركات أن يقدمها علي شاشة السينما ذات الشاعرية الرومانسية الممتعة حتي الإهداء الذي كتبه طه حسين في الطبعة الأولي للرواية كان لافتاً للنظر بما ينم عن احترام أدباء ذلك الزمان لبعضهم البعض فكتب: إلي صديقي الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد لقد أقمت للكروان قصراً فخماً في الشعر العربي الحديث فهل تأذن لي أن أقيم له عشاً متواضعاً في النثر العربي الحديث.. أرأيت مثل هذا التواضع لصاحب النفس الكبيرة والعقل المبدع. وفي ذلك إشارة إلي أن الأستاذ العقاد قد تغني في أشعاره بذلك الطائر المصري الجميل ومعاتباً في نقده لبعض الشعراء الذين غنوا للبلبل فهو طائر لم تعرفه سماء مصر تاركين الكروان الذي يملأ سماءنا نغماً وتسبيحاً كما بتخيله المصريون. تلك إشارة سريعة وكلمة مقتضبة في حلول ذكري وفاة عميد الأدب العربي. لنذكر بها مثقفينا