لأن شهر رمضان يختلف عن بقية شهور السنة بطقوسه المغايرة التي لا تقتصر علي الفروض الدينية. وإنما ترافقها عادات وتقاليد وممارسات تضيف إلي الذاكرة أياما يصعب نسيانها. فنحن نستعيدها - كمبدعين - عندما تكون محوراً لعمل إبداعي. أو عندما نتأمل ما جري عبر سنوات العمر. تعود هذه الأيام بالناقد شوقي بدر يوسف إلي ما يقرب من أربعين عاماً مضت يقول: كنت أجلس عصر يوم العاشر من رمضان أمام التليفزيون. وزوجتي تعد طعام الافطار في هذه الأيام المباركة وأولادي الصغار - الذين أصبحوا كباراً الآن. ولهم أولاد - يلعبون أمامي. ويحدثون ضجتهم كالعادة حين انقطع الإرسال فجأة. وظهر المذيع مرة أخري وهو يعلن نبأ عبور قواتنا المسلحة قناة السويس. واستولت علي خط بارليف الحصين الذي أقامه العدو الإسرائيلي علي الشط الشرقي لقناة السويس. وتدخل سيناء. وتعيدها مرة أخري إلي مصر. تقفز هذه الأيام المجيدة إلي ذاكرتي الآن. وأنا أشاهد هذه الجموع الغفيرة من الشعب المصري. وهي متلاحمة. وتعبر إلي خط جديد من الأمل في عودة مصر إلي سابق عهدها حرة أبية تحكمها الديمقراطية الحقيقية. وليست المزيفة التي مكثت معنا عاما كاملا. وضعت البلاد فيها علي حافة الهاوية. وهكذا التحم الجيش والشعب معاً في سبيل رفعة هذا البلد مثلما كان ذلك منذ أربعين عاماً مضت. ولرمضان - كما يقول الروائي والناقد محمد قطب - بهجته الجميلة. لا تستطيع ذاكرتنا أن تنسي رمضان ولياليه. وأذكر كنت مغرما بالمسحراتي الذي يمسك طبلته. ويدور في الجوار. ويجوب الحواري. وينادي علي كل من يغرفه. ومن لا يعرفه. ويمتدحه. وكنا نلبد مع فوانيسنا المضيئة بالشمع. ننتظر الرجل وفي يد كل منا هدايا من بلح ومكسرات. ونعطيها له. وهذه المواقف شيء ممتع أتحسر عليه الآن. لأنني لا أري ذلك في القرية التي عشت فيها. من تقاليد رمضان في الزمن القديم. كنا نتزاور. وكان البيت الذي يطبخ طعاماً ما يعطي الجيران منه. بما يعني أن المحبة كانت تغمر القلوب. الآن أصبحت العلاقات فاترة بين الناس. وبين الجيران. لا أدري سبب ذلك! ويقول د. أحمد عتمان إن أحلي رمضان قضيته في حياتي هو رمضان قريتي. عندما كنت أنتظر أذان المغرب بجوار الجامع. وعندما أسمع الأذان أجري إلي البيت لأعلن قدوم الافطار.. تلك لحظات لا مثيل لها. وأفراح القرية في شهر رمضان ليست في وقت الافطار فقط. بل في السحور أيضاً. حيث المسحراتي وهو ينشد التواشيح والأذكار. وكان يذكر الأسماء. وأحيانا عندما يأتي بيوتنا يذكر اسماءنا.. تلك الذكريات مطبوعة في الذاكرة. ومن الذكريات الجميلة أن العاشر من رمضان - وقت الحرب - كنت في اليونان غريبا بمفردي. أعد رسالة الدكتوراه. وبعده بيوم شاهدت صورة لأسري الجيش الإسرائيلي. كانت فرحة غير عادية. والمشهد الذي نعيشه الآن - في تقدير د. جمال عبدالناصر - يجعلنا نرتد - بالرغم منا - إلي الطفولة البريئة. زمن الطهر والنقاء والتدين. وفي الوقت نفسه نجتمع ساعة الإفطار. وفي صلاة التراويح. لم يكن في أذهاننا آنذاك إخوان ولا جهاديون ولا إسلام سياسي.. رمضان كان مرتبطاً بأنه أجمل أوقات السنة علي الاطلاق.. أما بالنسبة للجانب الثقافي. فقد كنا نتحلق حول شاشة التليفزيون. ونرحل إلي الزمن البعيد. نشاهد مسلسل ألف ليلة وليلة. ونتابع - في الوقت نفسه - الفوازير والاستعراضات الجميلة. وعلي مستوي الندوات كانت تعقد الندوات الدينية. وكان الود والتفاهم والحب والتراحم.. نرتد للطفولة سواء علي مستوي التجربة الروحية أو الإعلامية ساعات اللهو البريء. وطبعا ذروة رمضان تكون بعمل كعك العيد. نجلس مع جدتي وأمي وهما ينقشان الكعك. ثم الزكاة المخفية.. هذه الأوقات الجميلة نتمني أن تعود.. ما أحوجنا إلي تلك الأيام. ويروي د. رمضان بسطاويسي أن كل شخص مرتبط بجوانب حميمة. ورمضان له طقوس وشعائر تنمي شخصية الإنسان. وتربطه بثقافة المجتمع.. لدينا رمضان الطفولة. كل واحد له ذكرياته الخاصة به وحده.. الآن هناك التواصل الاجتماعي الذي ينتشر بين الشباب. والشبكة الدولية للمعلومات التي ترسخت بشكل ترابطي.. وأعتقد أن رمضان - من خلال التواصل الإنساني - قد تغيرت صورته وملامحه عبر قنوات التواصل. حيث يمكنك التعرف إلي ما قد يغمض عنك من أمور دينك.. المرء يتم بناء تجربته بشكل مفرد. لا يوجد تواصل إنساني مباشر. هذه التجربة عززت فردية الإنسان. وبالتالي تعطي أفقا جديدة. فالجديد أن الفرد لا يجلس أمام التليفزيون. بل عبر التواصل يمكنه أن يتابع البرامج أو المسلسلات دون إعلانات. وهذا فيه استثمار للوقت. رمضان بالنسبة لي تجربة روحية متجددة. عبر الصيام والشعائر يكون لها مكانة خاصة. وتخلق نوعاً من الحنو والحنين ربما من الصعب ان يتحقق الآن.