منذ عاد سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم من رحلته إلي الشام محققاً أرباحاً طائلة للسيدة خديجة نتيجة كفاءته وأمانته. بدت تلوح في الأفق. بوادر تقارب خديجة نحو محمد صلي الله عليه وسلم رغم أنها يومئذ أوسط نساء قريش نسباً. وأعظمهن شرفاً. وأكثرهن مالاً. وكل قومها في ذلك الوقت كان حريصاً علي التقارب منها لو يقدر عليه. لكن سبحانه مؤلف القلوب. إذ أن محمداً صلي الله عليه وسلم يتمتع بكل الصفات التي تتمناها أي امرأة في الرجل الذي تريد الارتباط به وأن يكون شريك حياتها. مع العلم بأن تلك طبيعة أي فتاة وأسرتها في كل العصور وربما يكون الحياء حائلاً دون الافصاح عن هذه الرغبة بسبب العادات والتقاليد. وفي سيرة بن هشام ما يشير إلي أن خديجة عبرت عن ذلك صراحة. ويروي عن نفيسة بنت علية انها قالت: أرسلتني خديجة خفية إلي محمد بعد أن رجع في عيرها من الشام. فقلت له: يا محمد ما يمنعك أن تتزوج؟ قال: ما بيدي ما أتزوج به. قلت: كفيت ذلك ودعيت إلي المال والجمال والشرف والكفاية. ألا تجيب؟ قال: فمن هي؟ قلت: خديجة. قال: وكيف لي بذلك؟ قلت: علي وأنا أفعل! بعد هذا الحوار بين نفيسة بنت علية مع محمد صلي الله عليه وسلم توجهت إلي السيدة خديجة وأخبرتها بذلك. وعلي الفور تم نقل هذه الرغبة إلي أسرة محمد صلي الله عليه وسلم وإلي أسرة السيدة خديجة. وقد اختلف في المزوج لها علي أقوال كثيرة. كما اختلف في الخروج له عليه الصلاة والسلاة. والصحيح أن المزوج للسيدة خديجة عمها عمرو بن أسد. وان الخروج للنبي صلي الله عليه وسلم عمه أبو طالب. ووسط هذه الفرحة تم إعلان الزواج وقيمة المهر الذي قدمه الرسول. وقد شهد علي هذا الزواج كبار قريش. انها فرحة غامرة بالارتباط بين الأسرتين العريقتين في أم القري. وقد التقي الزوجان في بيت الزوجية. طهر وعفاف. سماحة وأخلاق كريمة تظلل هذا البيت النبوي المودة والرحمة وقد كانت السيدة خديجة أول امرأة تزوجها رسول الله صلي الله عليه وسلم ولم يتزوج عليها حتي ماتت. وقد كانت السيدة خديجة مثالاً للزوجة التي اكتملت فيها كل الصفات التي ذكرها الرسول الكريم في قوله: خير ما يكنز الرجل المرأة الصالحة. إن نظر إليها سرته. وإن غاب عنها حفظته في ماله وعرضه. قلبها يقطر حناناً علي رسول الله صلي الله عليه وسلم. لقد كانت السيدة خديجة رضي الله عنها بمثابة السند الداخلي لرسول الله صلي الله عليه وسلم. تبحث بكل جهد عما يرضي زوجها. وحين جاءه الوحي كانت أول من أسلم علي يديه من النساء. الوفاء والسعي لارضائه هي غاية المراد لهذه السيدة الشريفة العفيفة. وفي هذا الإطار حين جاء الوحي للرسول قامت علي الفور باصطحاب الرسول واتجهت به إلي ورقة بن نوفل فقد كان رجلاً عالماً بهذه الأمور ولديه دراية عن الأنبياء وكذلك النواميس والإرهاصات الخاصة بذلك. وفي هذا اللقاء أخبر سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم ورقة بما رأي وشاهد من أمر الوحي ونزول جبريل عليه. فقال له ورقة: إن هذا الناموس كان الذي ينزل علي موسي. وما جاء به نبي إلا عاداه قومه. ووقفوا ضده. وليتني يدركني الزمان لكي أنصرك حين يخرجوك؟ قال محمد صلي الله عليه وسلم: أومخرجي هم؟ قال: نعم. ثم انصرف ومعه السيدة خديجة وكلماتها لم تتوقف لكي تبعث في نفسه الاطمئنان وتزيل أي رهبة في صدره. انها مهمة الزوجة التي تقف بجوار زوجها في أصعب المواقف وقد كانت السيدة خديجة بحق نعم الزوجة. فقد أحاطت النبي صلي الله عليه وسلم بكل المودة وأخذت تسري عنه وتدفع السكينة إلي قلبه. وتبشره بمستقبل عظيم. ظلت السيدة خديجة تردد كلماتها التي سجلتها كتب السيرة والتراجم في سجل الفخار والشرف باعتبارها نموذجاً لكل بنات حواء في كل العصور. لقد كانت كلماتها تنزل برداً وسلاماً علي قلب رسول الله صلي الله عليه وسلم ومن هذه الكلمات الطيبة: والله يا محمد لن يخذلك الله أبداً. انك لتصل الرحم وتقرب الضيف وتعين علي نوائب الحق. ولم تتوقف هذه العبارات الرشيدة عند هذا الحد وانما كانت تختار كلماتها بعناية وتقدير لمشاعر سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم ولذلك اسكنت هذه الكلمات في قلب الرسول وكان لها عظيم الأثر في قلبه. فقد جمعت كلماتها كل المعاني التي أسعدت قلب الرسول فزاد حبه لها مقدراً هذه المواقف التي ظل يتذكرها حتي بعد رحيلها.. انها خديجة.. النموذج لكل زوجة وأم ولنا عودة بإذن الله لنتعرف علي المزيد من هذه المواقف لعل أجيال المستقبل من الجنسين يستلهمونها خلال مسيرتهم في الحياة.