عائلتنا معمرة. مشهود لأفراها بطول العمر وقوة البنية وتوافر الصحة إلي آخر سنوات العمر.. ولا يرحل واحد منهم قبل أن يبلغ التسعين.. وابن التسعين يبكونه ويقولون إنه مات شاباً.. وكان يجب أن يعيش أكثر.. ومنهم من عاش حتي سن المائة ومنهم من تجاوزها. عدا أبي الذي ذهب إلي الحرب ولم يعد.. ويقولون إنه مات شهيداً.. ويحكي عن جدي الأكبر. جد أبي انه رحل وعمره اكثر من مئة وعشرين عاماً.. وانه تزوج آخر زوجاته وعمره تسعون عاماً.. وكانت صبية صغيرة انجبت له نصف دستة من الابناء. أحدهم جدي وعاش بينهم حتي صاروا رجالاً.. والي حين وفاته كان يذهب معهم إلي الحقل.. ويعزق الأرض بفأسه وذراعيه القويتين. كان له أولاد كبار من زوجاته الأخريات يقاربونه في العمر وجميعهم عاشوا بعد رحيله. لثقتم بأن الموت لن يقترب منهم الآن. انهم ينتمون إلي العائلة ذات العمر الطويل. ويحكي ايضا عن جد أبي هذا انه كان يذهب إلي الجبل الشرقي. قاطعاً مسافات طويلة عابراً عدة أنهار. ثم يصعد إلي قمة الجبل الشاهق ويهرع إلي كهف في باطن الجبل.. وتكون هناك في انتظاره غزالة برية بارعة الحسن. لها عينان واسعتان تفيضان سحراً.. وتقبل عليه عندما تراه قادما وتهز مؤخرتيها راقصة.. وترفع مقدمتيها إلي أعلي وتضعهما علي كتفيه وكأنها فرحة وسعيدة لقدومه فيضمها إلي صدره في حنو. ثم يقدم لها أطايب الطعام الذي جلبه معه.. ويقال انه كان يعشق هذه الغزالة إلي حد الهوس.. ويري فيها ما لا يستطيع رؤيته في كثير من النساء.. وبعد موته اختفت من الجبل.. ولم يعد يراها احد. ايضا عمتي فضيلة ورغم أنها تقترب من المئة إلا أنها تبدو قوية البنية. تتحرك بثبات رغم فقدانها نعمة البصر.. وتستطيع أن تحدد من القادم من وقع قدميه خارج البيت.. ومرة كنت عائداً اليهم وعندما اقتربت من باب البيت سمعت صوتها وهي تقول لأولادها واحفادها الملتفين حولها ابن أخي عاد من السفر. ثم نهضت واقفة وتوجهت نحو الباب حتي تكون في استقبالي سألتها ضاحكاً كيف عرفت أني القادم يا عمتي وليس شخصاً آخر قالت لي وهي تضمني إلي صدرها وتتحسس وجهي وتقبل وجنتي لقد شممت رائحتك وانت تغادر القطار علي المحطة. وقد ركنت إلي كل هذه الأسباب.. ورغم أن عمري يقترب من السبعين وحاصرتني أمراض العصر من السكر إلي الضغط المرتفع وتصلب الشرايين والروماتيزم وغيرها. إلا أني لم أعر كل ذلك اهتماماً. من منطلق انتمائي لعائلتي المعمرة طويلة العمر. حتي مات اصغر أخوتي وهو في ريعان الشباب. مخلفاً ستة من الاطفال الصغار وقبله رحل إبراهيم ابن عمي وهو شاب ايضا. عند ذلك الحد راح الجميع يعيد حساباته فقد كانوا يعملون لدنياهم كأنهم يعيشون ابداً.. ويغفلون عن الشطر الأخير. واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً. ولا يتنبهون إليه إلا عندما تدنو آجالهم بوقت قليل.