أسابيع أسابيع معدودة وأبدأ مرحلة جديدة في حياتي.. أتحرر فيها من المواعيد الرسمية ما بين حضور وانصراف وما يتخللهما من مشاحنات ومشادات من طبيعة العمل اليومي.. مرحلة لن يعكر صفوي فيها سوي الابتعاد عن رفقاء الدرب الذين مهما عاهدوني أو عاهدتهم علي استمرار التواصل بيننا لن نستطيع الوفاء حين تشغلنا الحياة وتتباعد اللقاءات ويغيب السؤال وهكذا حال الدنيا!! لقد رأيت في تجربتي مع الحياة ما يستحق تقديمه لقراء نافذتكم لعلها تبث الأمل فيمن تتشابه ظروفه مع ما مررت به من ظروف.. وجدتني وأنا أتهيأ للخروج إلي المعاش كيف سارت حياتي الوظيفية والاجتماعية علي نحو مدهش فاق كل التصورات رغم ما اعتصرها من أحزان وآلام. وأبدأ من اليوم الذي سافرت للعمل في الخارج أملاً في توفير معيشة كريمة لأبنائي بعدما عجز راتبي المتواضع من المطبعة التي أعمل بها عن تلبية الحد الأدني من احتياجاتهم.. وبمضي الوقت اعتدت حياة الغربة وظننت أن مقامي فيها سيطول. لكن سبحان مغير الأحوال!! فذات يوم تلقيت مكالمة تخبرني بوفاة أم أولادي.. وهي التي لاتزال في ريعان الشباب بعد تعرضها إلي حادث حريق رجعت إلي مصر مهرولاً لأحتضن صغاري وأباشر أحوالهم. لكن بدلاً من أن يقف بجانبي أهل زوجتي الراحلة فمصابنا واحد وضعوني بين خيارين.. إما الزواج بخالة "الأبناء" أو انتظار المحاكم حينما تقضي بضم الأولاد لحضانة "الجدة من الأم"! كدت أفقد صوابي وأنا أواجه هذا الحصار ولم أجد سبيلاً للخروج من هذا الهم سوي بمناجاة الله وهو ما أفعله دائماً حينما يضيق بي الحال ويشتد الكرب.. وفي أثناء ذلك كان عليّ الاستعداد من جديد للسفر واستئناف عملي بالخارج. إلا أن أبنائي الصغار منعوني حين جاءني منهم من يبكي قائلاً: حتسبنا من تاني.. مش كفاية اللي حصل لنا.. كلمات عصفت بكياني وجعلتني أحسم أمري بعدم السفر والرجوع إلي عملي بالمطبعة. فكما يقولون "رب هنا.. رب هناك". ولأنني عشت باراً بوالديّ.. حنوناً علي أولادي وجدت التوفيق يحالفني في كل خطواتي ويباركها.. فقبل أيام من الفصل في دعوي الحضانة وضم الأبناء فوجئت بأم زوجتي الراحلة تطلب رؤيتي وعلمت أنها مريضة مرضاً شديداً.. ورغم ما أصابني منها ومن أبنائها استجبت لمطلبها لأستمع منها ما لم أتوقعه.. فقد أخبرتني بأنها تنازلت عن دعوي الحضانة وأوصتني بالحفاظ علي أبناء ابنتها الراحلة.. وما هي إلا أيام حتي قابلت ربها. ومع شعوري الدائم بأن الله لن يتركني لأحزاني فقد دعوته أن يرزقني بالزوجة التي تعييني علي رعاية أولادي.. ووجدتها وأخذت منها ميثاقاً غليظاً بالإحسان إليهم. وفي الحقيقة لم تخذلني زوجتي الثانية يوماً بل استطاعت تقديم نموذج مبهر لزوجة الأب الحنون. فعلي الرغم من أن الله لم يرزقها بنعمة الإنجاب فلم يؤثر ذلك علي رعايتها المثالية لأبنائي. ما جعلها تحظي بحب الجميع لها بمن فيهم أهل زوجتي الراحلة!! ولا تتعجبي لو قلت لك إن زوجتي الثانية بلغ بها العطاء مبلغه تجاه أولادي خاصة البنات اللائي شملتهن بكل الاهتمام حتي اطمأنت عليهن في بيوتهن.. عطاء بلا حدود كان لابد أن يقابله عرفان بالجميل من جانب أبنائي حين نادوها بكلمة "ماما" دون طلب مني أو طلب منها!! وجدت في تجربتي ونموذج زوجتي ما فيه رسالة لكل رجل يمر الآن بمثل ما مررت به في الماضي. ولكل سيدة مقبلة علي الارتباط بأرمل له أبناء.. اجعلوا الإخلاص هو رمز تعاملاتكم. وازرعوا الحب فيمن حولكم ولو لم تربطكم به صلة دم أو نسب. ح. ح- القاهرة. ا لمحررة كم يملؤني التفاؤل كلما تلقيت في بريدي أو استمعت عبر الهاتف قصصاً من الحياة استطاع أصحابها قهر اليأس بمزيد من الأمل والإيمان.. فقد تفاديت الصدام مع أهل زوجتك الراحلة وسألت الله أن يفتح بينك وبينهم بالحق حتي جاءك الفرج من حيث لا تدري أو تحتسب منهم أنفسهم. لتطوي هذه الصفحة ويظل أبناؤك في حضانتك وتحت رعايتك. وحين فكرت في الزواج مرة ثانية وضعت نصب عينيك مصلحة أولادك في المقام الأول والأخير. ولجأت كعادتك إلي الله تسأله الزوجة الصالحة. فهداك إليها لتجد فيها بحسب وصفك النموذج المبهر وهي تسعي بكل حب علي رعاية أبنائك هذا الحب الذي استشعروه منها فتبادلوه معها دون إجبار أو وصاية ولسان حالهم يكاد يردد "تستاهلي ماما"! أنت أيضا يا صاحب القصة "تستاهل" عن جدارة لقب "الأب المثالي".. فكنت خير من يحافظ علي أبنائه الصغار بعد رحيل الأم بل وتمسكت بذلك.. رغم أن آباء غيرك لا يستطيعون تقديم بعض ما قدمته وتحملته في سبيل أولادك. فكان لابد أن تأتيك جائزة السماء حين أهدتك الزوجة الصالحة التي هونت عليك الطريق وستظل بقدر ما تتحلي من قدرة علي العطاء تهونه عليك عندما تخرج إلي المعاش بعد أسابيع.. لكن يبقي من تجربتك المعني الأبرز بأن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك.. فهل نعي كلنا ذلك حينما تصارعنا الأيام بالمحن والشدائد؟