اصيبت ايرادات الأفلام المصرية إبان الفترة الماضية بضربة قاصمة سببت خسارة كبيرة جعلت المنتج والموزع يعيدان النظر في مدي صلاحية الأفلام حتي التي لم تعرض بعد أو مازالت قيد الانتاج. ورأي ان الظروف التي مرت بها البلاد بينما تعيش الجماهير ثورة هائلة وغير مسبوقة ولدت ظروفا استثنائية غيرت المزاج العام وخطفت اهتمامات الناس ووجهت أنظارهم صوب احتياجات وتطلعات لا تحتل الفرجة مساحة فيها بالاضافة طبعا الي الاضطرابات التي فرضت حظرا علي حرية الحركة وجعلت دور السينما لا تعمل لفترة. لقد احتلت السياسة بكل ما تعنيه من هموم متراكمة ومشكلات اجتماعية واقتصادية ثقيلة الاهتمام الأكبر وجعلت الناس ربما لأول مرة تتنفس عن جراح ومشاعر مكتومة وآراء لم يكن من الممكن التعبير عنها طوال الحقب الزمنية التي تميزت بالاستبداد والفساد وكتم الأنفاس بالاضافة الي مظاهر الزيف والتدليس والكذب والقمع الأمني. الفرجة الأكثر تشويقا والحركة الأشد عنوانا وصدقا كانت وسط الكتل البشرية في ميادين التحرير علي امتداد القاهرة والاسكندرية والسويس والاسماعيلية و... الخ. فالحالة المزاجية والبوصلة المعنوية لم تكن سينمائية بطبيعة الحال مع انها تشكل مادة عزيزة وثرية ومفعمة بكل أنواع الجذب والإثارة لأي فنان سينمائي أو تشكيلي أو روائي. الواقع الفعلي الذي تتم صناعته من جديد لحظة بلحظة جعل الجمهور نفسه هو الفاعل وليس مفعولا به هو العرض والمتفرج وهو صانع الحدث ومؤلف الحوار ومايسترو الحركة متفاعل بكل طاقته يصمم الحركة ويدفع بها في ايقاع متصاعد متسارع حتي وصلت الي الذروة سيمفونية يتم تأليفها وعزفها والانتشاء بلحنها لم يسبق ان عاشتها الناس بكل هذا المرح والترقب والخوف والعصبية والاندفاع المحموم كطائر عملاق يريد أن يخرج من القفص الصلب الذي انحشرت فيه كل اشواقه الي الانطلاق والحرية فأي الأفلام مهما بلغت قوتها يمكن أن تجذب هذا الجمهور بعيدا عن حدث مصيري يؤسس لمستقبل ابنائه. والعرض مازال مستمرا والبطولة الجماعية تحتل المساحات المفتوحة والرسائل التي يتضمنها السياق المرئي تعكس أشواقا واماني عزيزة وحرمانا طويلا. فالأبواب مسدودة وكذلك الطريق الي المستقبل والأفواه مكممة والقلوب مكتومة مثقلة والكرامة مداسة والاحساس بالذات معدوم فالنظام البائد أنهك الروح واستهلك الطاقة المعنوية للناس وفي هذه الحالة لا يوجد مكان لصالات مغلقة ولا ظلام ولا صور مصنوعة وحكايات مفبركة.. فكل الأفلام المعروضة حاليا خارج السياق بعيدة وغريبة وتبدو طفيلية فالواقع تغير ومصر تغيرت علي الأقل نفسيا ومزاجيا وعلي الأفلام وصناعها أن يراعوا فروق التوقيت. ** حتي الكتابة عن الأفلام وعن السينما عموما كانت بالنسبة لي علي الأقل صعبة جدا. عجزت تماما عن الخروج من هذا الاحتشاد الشعوري والاستغراق الكلي في متابعة وقائع هذه الثورة خوفا عليها يصل الي حد الرعب توجسا من المؤامرات التي حيكت وتحاك ضدها من مؤسسات الدولة البوليسية القامعة التي احكمت قبضتها علي أنفاس المصريين أتابع الأخبار واطاردها حتي في الصحف حتي تلك التي لم اعتد قراءتها. أجلس بالساعات أمام التليفزيون أقفز بين القنوات. أترقب جديدا يثبت الاحساس بالطمأنينة علي وليد لم ير النور الساطع بعد ولم يخرج من الحضانة أو بالأحري من تحويط الناس حوله أيام الجمعة التي أصبحت بمثابة اعلان وإنذار ورسائل تؤكد ان الثورة ابنة شرعية. عزيزة. جميلة. ولن تقوي قوة علي الأرض بإذن الله وإرادة الشعب أن تخمدها.. فلقد حققت بسبب التواصل والتلاحم بين المصريين في الداخل والخارج وبفضل الانترنت والأقمار الصناعية والتواصل اللحظي السريع مع القنوات الفضائية ثورة مدهشة علي مستوي آخر اسقطت الحدود الجغرافية وألغت المسافات وهدت أسوار الغربة وجعلت التلاحم الوطني والروحي والمعنوي بين أبناء الوطن الواحد ممكنا وقوة اضافية لمصر في الداخل والخارج وعلي امتداد الكون.. الأمر الذي يفتح طاقة ابداعية مختلفة وعلاقات جديدة تضاعف الاحساس بالقوة.. ثمة علاقات جديدة دخلت حياتي شخصيا إبان أحداث هذه الثورة البديعة مع مصريين ومصريات يعيشون في الخارج بعضهم كنت أنتظر اطلالتهم علي الشاشة بشوق حقيقي واسمع آراءهم فتزيدني اطمئنانا بأن مصر ليست للبيع ولن تكون أبدا وان الطغاة الذين تحكموا في مقدراتها تحت "الميكروسكوب" وآثامهم ظاهرة جدا للعيان ومحفوظة بالنسبة لأبناء مصر في الخارج.. أذكر وأتذكر بحب حقيقي الدكتورة سامية هاريس وهي مصرية من شبرا وتحتل مكانة علمية كبيرة في واشنطن وهي رئيسة الجالية المصرية هناك كنت أتوق الي حديثها واشتاق اليها وأنتظرها في كل مرة وهي تدلي برأيها في الثورة علي قناة "الحرة" وتتحدث بالعربية وتصر علي الحديث بها واعتقد انها من جيل ثان من المهاجرين المصريين ومن شدة اعجابي بآرائها قررت أن أكون ايجابية علي نحو غير مسبوق بالنسبة لي فتشت عن عنوانها علي الانترنت وأرسلت إليها وفوجئت بردها في نفس اليوم واندهشت جدا حين قالت انها نزلت القاهرة فعلا وزارت الثوار في التحرير وعبرت عن رأيها في الأحداث وكان لها تعليق ظريف جدا قالته عبر الشاشة حين قام الرئيس السابق بتعيين عمر سليمان نائبا له قالت بالحرف "كيف تضعون الثعلب في قفص الدجاج". ان المزاج السينمائي الجماهيري المعتاد هارب هذه الأيام.. وعلي صناع الأفلام أن يطاردوه ويعيدونه إلي داخل صالة العرض والمؤكد اننا في حاجة إلي ثورة أخري تمكنهم من تكييف أوضاعهم ونظراتهم إلي السينما. الحكايات والأمكنة والشخصيات والأحداث والموضوعات. يقول المخرج الأمريكي الشاب جورايت "39سنة" الذي يعرض له حاليا في أمريكا فيلم "حنا" من الأشياء الممتعة جدا أن تحكي للناس قصصا مفعمة بالحركة وهناك فرص عديدة للحكي القصصي. فالدراما يمكن تقديمها علي خشبة المسرح والصور التشكيلية الجميلة يمكن عرضها في المعارض ولكن الحركة "الأكشن" تمثل خلاصة السينما. واضيف ان دلالات اللغة التي تلوح بها الحركة "الاكشن" علي مستوي الفرد أو الجموع ثم السياق الذي تنتظم فيه وفق ايقاعات تمنح لهذه الحركة قوتها وجرهرها الانساني من شأنه أن يضع العمل الفني في مرتبة خالدة كوثيقة حية باقية عبر السنين تعلي من شأن الحياة وتجعل منها قيمة.. ومن تابع الحركة التي روت بها الجماهير حكايات الثورة المصرية في ميادين التحرير وشارك فيها الملايين والآلاف مؤلفة علي الكباري والشوارع وساحات المساجد والاشتباكات الضارية التي سقط فيها عشرات الشباب والآلاف الجرحي من صناع هذه الانتفاضة المقدسة الي جانب المطاردات ورصاصات القناصة فوق البنايات من تابع هذا الزخم المرئي والمسموع والمتدفق للحركة الجماعية الفريدة سوف يشعر بمنتهي الاجلال ويشارك بقلبه وعقله ولن يكون هناك أي مكان لشيء آخر غير الواقع المعاش. لقد شكلت حركة المجاميع العفوية في المساحات المفتوحة "مجلدا" ثقافيا متعدد الألوان والاتجاهات والمستويات والأمزجة. بدت التأثيرات التي خلفتها سنوات الهجرة الي دول النفط في الخليج ابان السبعينيات وتأثر الأجيال الصغيرة التي ولدت هناك مثلما ظهر جانب من سطوة التيارات الدينية علي الشباب وشرائح أخري عكست أثر الثقافة الغربية علي أبناء الطبقة الوسطي بشرائحها المتنوعة وتجلت مظاهر العوز نسبة ليست قليلة. مثلما ظهرت الكدمات الأخلاقية والسلوكية والعلل الاجتماعية ورغم هذا التباين الواضح ذابت الكتل المتنافرة وكونت كتلة متماسكة تتعرض حاليا لمحاولات التفتيت كما في حالات كثيرة وقد ينتج عنها مظاهر فوضي تفتح أحشاء سلبيات تراكمت عبر سنين من الانحطاط والاضمحلال الثقافي والاجتماعي فقد كانت الحقب الثلاث الأخيرة تجسيدا لمدي الهبوط النفسي والسلوكي الذي وصل إليه المجتمع.. وهنا قد تصبح الحركة عشوائية وقد تحول الصورة "الموزاييك" الجميلة لشعب أثبت قدرته الفذة علي رفض الفساد الي صورة لا تخلو من قبح وتطرف ومبالغات مقيتة وسلوك همجي قد يسفر عن كارثة والعياذ بالله. لا أعتقد ان المزاج السينمائي والرغبة علي الأفلام الترفيهية ستعود حالا.. ولا أتصور ان الجمهور عاشق السينما سوف يرضي بأنواع الفبركة المعتادة ولن يرضي بالحكايات التقليدية القديمة فالتجربة عاصفة ومزلزلة ومازالت.. ان ثورة 25 يناير لابد أن تطول السينما فلا يكون حظها مثل ثورة 23 يولية الذي أصبح فيلم "رد قلبي" الأيقونة الوحيدة ربما التي نعرضها عند الاحتفاظ بها أو حظ ثورة 1919 التي كان نصيبها مشهدا في فيلم حسن الامام يتكرر ربما في أعمال أخري أو حظ "حرب اكتوبر" بحفنة الأفلام التجارية عديمة القيمة التي ملها الجمهور وقبلها حرب الاستنزاف التي مهدت للانتصار العظيم في معركة العبور. أعتقد ان ثورة 25 يناير التي اسمهت فيها ثورة الاتصالات والفيس بوك والفضائيات والانترنت وحمل شعلتها في الصفوف الأولي شباب يعيش هذه الثورة العلمية في حياته اليومية ولم يكن مثلما تصورنا جيلا أو أجيالا تافهة علما بأنها هي نفسها التي تشكل جماهير السينما في الفترة القادمة لابد أن نعيد النظر في سياسات وأساليب مختلفة أكثر نضجا وتعبيرا تضاهي هذه الثورة غير المسبوقة وذلك حتي يعتدل المزاج السينمائي ويسعي الشباب للفرجة وعلي صناع السينما الشباب الذين بدأوا بالفعل في شق تيار سينمائي مختلف وحديث باستخدام نفس التكنولوجيا المبهرة التي حركت بقوة هذه الثورة وأكدت ان في الحركة بركة وجمال وسينما تنتصر للفن وتلبي أشواق الناس.