في حياة سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم مواقف كانت بمثابة علامة بارزة في تاريخ الدعوة المحمدية وكان يتذكرها بين كل فترة وأخري لأنها تركت آثاراً طيبة في نفسه في مقدمة هذه المواقف .. ما جري من السيدة خديجة أم المؤمنين منذ أن خرج للشام في تجارة لها وتعرفت علي شخصية الرسول وكفاءته في العمل التجاري ومدي أمانته وما تحقق لها من أرباح بالإضافة إلي ما حدثها به ميسرة من أشياء أثارت انتباهه منها أن أحد الرهبان عندما شاهد الرسول يجلس تحت شجرة فسأل ميسرة قائلاً : من الذي يجلس تحت الشجرة؟ فأجابه بأنه رجل من قريش من أهل الحرم. فقال الراهب لا يجلس تحت هذه الشجرة إلا نبي ثم تطورت الأمور سريعاً وتم زواج رسول الله من السيدة خديجة بنت خويلد في حفل شهده من أعمام الرسول أبوطالب وحمزة ومن أهل خديجة عمها عمرو بن أسد لوفاة والدها وكذلك ورقة بن نوفل. ومنذ أن انتقلت السيدة خديجة إلي بيت الرسول كانت نعم الزوجة إنها ينبوع الحب والحنان مع قوة اليقين الذي استقر في قلبها بعد أن دخلت في دين الله وكانت أول من أسلم من النساء ووقفت بجوار الرسول تؤازره. وكانت لا ترفض له طلباً وضربت النموذج والمثل والقدوة الحسنة لكل بنات حواء. طاعة ومواقف في منتهي الشجاعة خففت الكثير من أحزان الرسول بعد أن أبلغ أهل مكة بالدين الجديد والدعوة إلي توحيد الله والابتعاد عن عبادة الاصنام. لم يضق صدرها يوماً. المواقف والبطولات في حياتها مع الرسول لم ينسها مهما تباعد الزمن. يذكرها بكل خير يعرف لها قدرها وتضحياتها من توفير أفضل وسائل الراحة لزوجها وكانت بحق هي السكن للرسول كما جاء في الأية الكريمة في سورة الروم .. "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون". ظلت السيدة خديجة بجوار الرسول تدفع الطمأنينة إلي قلبه وتجلي ذلك عندما جاءه الوحي في غار حراء وعاد إلي بيته مخبراً خديجة بما كان من أمر الوحي وما جري منه حينما ضمه قائلاً : اقرأ فقال الرسول ما أنا بقارئ وبعد أن روي الرسول هذه الأحداث قالت له : ابشر وأثبت وظلت تطمئنه وقالت : فوالذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة. وعلي الفور جمعت ثيابها واصطحبت الرسول إلي ابن عمها ورقة ابن نوفل لأنه كان علي دراية بالتوراة والانجيل وكذلك أحوال أهل الرسالات السماوية. وعندما أخبره الرسول بما كان من أمر الوحي قال له : إن هذا الناموس الذي جاءك كما كان يأتي إلي موسي والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة ولكن قومك يكذبونك ويؤذونك ويخرجونك فقال الرسول الكريم : أو مخرجي هم؟ قال ورقة : نعم لأنه لم يأت نبي بمثل ما جئت به إلا عودي وتعرض للإيذاء وإن يدركني يومك لانصرتك نصراً مؤزراً. مضت الأيام والسيدة خديجة ثابتة علي مواقفها ومن كلماتها التي أثلجت صدر الرسول. والله أنك لتصل الرحم وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين علي نوائب الحق والله لن يخزيك الله أبداً. تستمع باهتمام لحديثه عن الوحي ومن الأحاديث التي دارت بين الرسول وخديجة حول الوحي وما كان الرسول يشعر به. وهل وحي أم شيطان؟ قالت : هل يمكن أن تخبرني بصاحبك حين يأتيك؟ قال : نعم. لم تمض سوي فترة قصيرة حتي جاءه جبريل فأخبر خديجة. فقالت قم فأجلس علي فخذي الأيسر. ثم أجلس علي فخذي الأيمن. ثم اجلس في حجري وفي كل مرة كانت تسأله هل تراه؟ فكان يجيبها بنعم. ثم قامت فألقت خمارها والرسول جالس في حجرها فسألته وهي علي هذه الحالة هل تراه؟ قال : لا. قالت : لا. فقالت له : أبشر .. والله إنه لملك وليس شيطاناً. واستمرت السيدة خديجة علي هذه الصورة ولم تسمع الرسول بأي شئ يكرهه. وتهون عليه عندما يتعرض لأمر يحزنه. إن السيدة خديجة لعبت دوراً مشرفاً في حياة النبي وكان الوفاء والتقدير لزوجها أسمي شئ لديها ولذلك كان تقدير الله لها فقد أخبرها الرسول الكريم قائلا : إن جبريل جاء ني فقال أقريء خديجة السلام من ربك فقال لها : يا خديجة هذا جبريل يقرئك السلام من ربها. فقالت : الله السلام و منه السلام وعلي جبريل السلام. ومما قاله رسول الله في شأن هذه السيدة الطاهرة : أمرت أن أبشر خديجة ببيت من قصب لاصخب فيه ولا نصب. وكان الرسول يذكرها بكل خير حتي بعد رحيلها من هذه الدنيا. ومما كان يقوله في حضور زوجته السيدة عائشة حين كانت تأتي إلي منزله سيدة فكان يكرمها ويردد كانت تأتينا أيام خديجة. فكانت السيدة عائشة تغار من هذه الكلمات لكنها حينما شاهدت الغضب قد بدا علي وجهه صلي الله عليه وسلم تحررت من هذه العادة وكانت تشارك الرسول في تكريم هذه السيدة عرفانا وتقديراً لسيد الخلق صلي الله عليه وسلم وحرصاً علي رضائه. ولا شك أن السيدة خديجة ضربت المثل في نشر المودة والمحبة في بيت النبوة وكان من فضل الله عليها أن ذرية الرسول كانت من هذه السيدة رضي الله عنها وصدق في حقها قول الشاعر العربي القديم. ولو كانت النساء كهذه .. لفضلت النساء علي الرجال.. هناك شخصية أخري وقفت بجوار الرسول تدافع عنه خاصة عندما تولي كفالة الرسول بعد وفاة الجد عبدالمطلب. إنه عمه أبوطالب الذي أشرت إلي أنه قد شهد زواج الرسول بخديجة. وله مواقف لا تنسي بجوار الرسول ولعلها أكثرها وأشدها. أثراً لدي الرسول حينما جاء وفد من كفار مكة إلي أبي طالب فقالوا له إن أبن أخيك قد عاب آلهتنا وسفه أحلامنا وتسبب في التفرقة بين المرأة وزوجها والأخ وأخيه. وطالبوا أبوطالب قائلين : نريد منك أن تمنع ابن أخيك وتطالبة بأن يكف عن دعوته التي أشاعت الفرقة بين أهل أم القري ولابد من وقفة مع ابن أخيك لأن الصدور قد ضاقت بدعوته. ولا تدفعونا إلي عمل قد يغضب آل هاشم ولا يستطيعون دفعه. وبعد أن استمع أبوطالب لهذا الوفد وطلباته التقي الرسول وقال له. يا ابن اخي ابق هذا الأمر بيني وبينك ولا تتسبب في عداء أهل مكة لاسرتنا. وأن هذا الأمر لا قبل لنا به واخذ يتطلع إلي الرسول منتظراً الاجابة علي التساؤل الذي طرحه عمه. لكن الرسول قال بكل حسم : يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري علي أن أترك هذا الأمر ما تركته حتي يظهره الله أو أهلك دونه. وهنا تحركت مشاعر العم لهذه الكلمات المؤثرة فقال : يا ابن اخي افعل ما شئت والله لن أسلمك إليهم ابداً ثم أنشد يقول : ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذاري ثبتا لوجدتني سمحا بذاك مبينا ورغم معرفة أبوطالب بأن دعوة سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم حق وتدعو للحق إلا أنه لم يعترف بذلك وشاء الله السميع العليم أن يتوفي أبوطالب دون أن يدخل في دين الإسلام وصدق الله اذ يقول "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين" [56 القصص] حقيقة لقد كانت مواقف السيدة خديجة وعمه أبوطالب مشرفة بكل ما تعنيه الكلمة وقد شاءت الأقدار أن يرحل الاثنان في عام واحد سماه الرسول عام الحزن. وقد كانت مشاعر الرسول يملؤها الآسي لهذا الفراق. لكن كانت هناك بشريات من الحق سبحانه بالتسرية عن الرسول وازاحة الحزن عن صدره ولذلك حديث آخر الأسبوع القادم بإذن الله.