لعل أخطر ما يتهدد مسيرة الأمة نحو النهضة والتعمير. الانشغال بقضايا هامشية تنقسم حولها الآراء وتتعدد الاجتهادات بصورة لا تري فيها أي وحدة تسير فيها. وكثيراً ما تتسم الآراء بالشدة والعنف وتتناول الآخرين بألفاظ حداد وعبارات لا تتناسب مع أهل الرأي والفكر وتزداد الهوة بصورة أشد قسوة مع مضي الوقت تفسخ العلاقات ولا ندري إلي أي منزلق نتحرك وأي ضياع ينتظرنا أكثر من الهموم التي تعيشها المجتمعات العربية والإسلامية هذه الأيام ومصر في مقدمتها ويكفي أن نلقي نظرة علي حوار بين طرفين أو أكثر حيث تصاب بالغثيان وتنتابك الحسرة علي الحالة التي وصلنا إليها رغم أننا لا نري أي بادرة للاتجاه نحو القضايا الحقيقية التي انشغلنا عنها بتلك النزعات مع علمنا بأنها لا تقدم ولا تؤخر. في نفس الوقت نري أننا نتراجع إلي الوراء بخطوات تشير إلي أننا في غفلة عما يجري حولنا من تربص ومخططات يسعي مروجوها إلي استمرار هذا الاختلاف وذلك النزاع لكي ننشغل عن شئون حياتنا التي أصابها التدهور خاصة في النواحي الأخلاقية بصورة تتنافي مع قيمنا وتقاليدنا التي كان يحسدنا عليها الآخرون. وللأسف تتنوع هذه المخططات لتغذية الخلافات وابتكار الحيل في نشر الشائعات التي تتصدي لأي فكر يسعي نحو وحدة الرأي والهدف واحباط أي دعوة للمصالحة. مع شديد الأسف فإن كل التيارات سواء كانت إسلامية أو ليبرالية أو انتماءات أخري فإن كل حزب بما لديهم فرحون وتجاهل الجميع دعوة الأديان السماوية للابتعاد عن الخلافات وتشتت الآراء خاصة الإسلام فقد وجه الأنظار إلي أن الجميع ينتمون إلي آدم أبي البشر "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير" 13 الحجرات. حقيقة لقد أصبحنا في عزلة عن بعضنا البعض وكأن الجميع يعيشون في جزر متباعدة رغم أن الإسلام نبه إلي أن التصالح بين الأطراف المتنازعة هو أفضل الوسائل لنزع فتيل الأزمات التي يعيشها المجتمع نتيجة هذه الصراعات التي لا طائل من ورائها والأغرب أن من ينتمون إلي التيارات الإسلامية يتغاضون عن هذه النداءات التي جاءت صريحة في سورة الحجرات "إنما المؤمنون أخوة فاصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون" 10 الحجرات. ومن المؤلم أنك لا تري أي اتفاق فيما بين هذه التيارات الإسلامية التي تتنوع اجتهاداته وفق انتماء كل تيار منهم ولم يسأل أي واحد من هؤلاء نفسه إلي أين نحن ذاهبون؟ وهل غفل هؤلاء عن قول الله تعالي "إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون". ولا شك أن الإسلام قد نبذ أي دعوة للعنف أو الشدة ونهي عن التطرف "يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا علي الله إلا الحق" واستمر التنافس بين كل الأطراف دون تدارك لما يحيق بأمتنا من مخاطر. وكيف يكون لديهم هذه القيم التي تحظر حتي مجرد السخرية من بعضنا البعض ولا يلتفتون إلي تلك المبادئ التي تنشر الحب والمودة بين الناس وتجعل الذين ينتمون إلي الدين الحنيف أكثر الناس التزاماً بهذه القيم وعدم الابتعاد عنها ومخاطبة مخالفيهم بحكمة ولين في القول "ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين" النحل. إن سعادة الأمة في وحدة الرأي والهدف ونبذ الحقد والبغضاء والكراهية وسد أي طرق لهذه الصفات الذميمة التي تهدم العلاقات بين مختلف الفئات فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام" وهناك أيضا ما رواه الطبراني عن حارثة بن النعمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ثلاث لازمات لأمتي. الطيرة والحسد وسوء الظن. فقال رجل: وما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه؟ قال صلي الله عليه وسلم: إذا حسدت فاستغفر الله. وإذا ظننت فلا تحقق. وإذا تطيرت فامض" فهل بعد هذه التوجيهات من الرسول الكريم أن تظل هذه الخلافات وتلك النزعات المتطرفة التي يتجه بعضها إلي تكفير البعض. والهجوم علي المخالفين رغم أن رب العالمين نبه إلي الحكمة في مخاطبة الآخرين مهما تكن شدة طغيانهم. وقد تجلي ذلك في قول الله تعالي لكليم الله سيدنا موسي صلي الله عليه وسلم حين أرسله لفرعون مع أخيه هارون "اذهبا إلي فرعون إنه طغي. فقولوا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشي" لكن التفت الجميع عن ذلك وتمسك كل بنزعته واتجاهه الذي يؤدي إلي توسع هوة الخلافات وكأننا نمضي في طريق مسدود. المثير للدهشة أن بعض أهل الإسلام يسيئون للدين الحنيف نتيجة هذا التطرف والتشدد مما جعل الآخرين يلصقون بالمسلمين صفات الإرهاب والعنف. فها هي أعمالهم التي تتنافي مع قيم هذا الدين. فقد ارتكب المخالفون جرائم جعلت الأوروبيين يتوجسون خيفة من أي مسلم فهناك رئيس دولة كان يريد الخروج للتنزه مع ضيف له لكن جاء حارسه الخاص وأخبره بضرورة عدم الخروج وعندما سأله لماذا؟ قال: لقد شاهدنا إرهابياً مسلماً يطوف حول المنزل. فنظر إلي ضيفه الذي ينتمي إلي الإسلام قائلاً: أرأيت كيف أسأتم إلي الإسلام؟! إذن لابد من وقفة مع النفس لاستعادة الوجه المضيء للدين الحنيف. أعتقد أنه قد حان الوقت لوقف التنازع والسعي بكل قوة لرأب الصدع وتدارك الأمر والانصياع لقول الله تعالي: "لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيما" 14 النساء وبالله التوفيق.