غير موعد كان لقائي به.. رجل ضخم البنية ذو صوت جهوري يتكيء علي عصا صفراء مرتدياً جلباباً وشالاً أبيض علي الرأس.. في البداية تصورت أنه سيتحفظ في الرد علي اسئلتي وان الحوار معه سيمضي سريعاً لكن ما أن شرعت في طرح الاسئلة حتي بدا شخصاً آخر.. شخصاً يريد ان يقول للدنيا كلها: "هكذا كان حالي.. وها أنا اليوم". * ................ ؟ - لا تتعجبي من هندامي ولحيتي فهذا حال كل من أنعم الله عليه بالتوبة الخالصة - وأحسبني كذلك - وهداه إلي طريق الزهد والتصوف وهو الطريق الذي وضعت اقدامي عليه في أعقاب خروجي إلي المعاش المبكر وأنا في العقد الخامس من العمر حيث كنت محاسباً كبيراً بأحد البنوك - وما أدراكم وعالم البنوك؟ - ما جعلني أتقاضي مكافأة كبيرة عند نهاية الخدمة وكان مبلغاً مغرياً لان يبدأ كل واحد من أبنائي الخمسة بعرض طلباته مع أنهم لا ينقصهم شيء.. فقد علمتهم أفضل تعليم حتي تخرجوا في الجامعة وشغل بعضهم وظائف مرموقة وأقمت لهم بيتاً يليق بهم وبمكانتي الاجتماعية. * ................ ؟ - أمسكت بمكافأة نهاية الخدمة وشعرت أنها تدعوني إلي التطهر من كل ما اقترفته في حق نفسي طوال سنوات عملي ومباشرتي لقروض البنوك.. باختصار وبنفس لغة الأرقام - التي لم اتقن في حياتي غيرها - بدأت في حساب ما تبقي لي من العمر الافتراضي مستقبلاً الحديث النبوي الشريف "ما أسكر كثره فقليله حرام".. عازماً علي رصد قيمة المكافأة للغلابة والمساكين.. ولم أكن أتصور ان في قراري إزعاجاً لأحد خاصة بناتي اللائي غضبن وثرن ثورة عارمة ضدي وأنا الذي حرصت علي عدم الزواج بعد وفاة أمهن لأكثر من 19 سنة خوفاً من أن آتي لهن بزوجة أب وظللت أترفق بهن وأغدق فخصصت لكل ابنة شقة في بيت العائلة حتي لا يبعدن عني بعد الزواج!! أبنائي هؤلاء لم يتورعوا عن تحريك دعوي حجر ضدي تلك الدعوي التي لم أعلم بها سوي عند استلام اخطار من المحكمة بموعد الجلسة حيث قام القاضي بسؤالي بعض الاسئلة التي جاءت اجاباتي عليها لتؤكد منطوق الحكم "رفض الدعوي شكلاً وموضوعاً لثبات كامل قواه العقلية"..!! * ................ ؟ - خرجت من المحكمة إلي محطة القطار مباشرة قاطعاً كل صلتي بأبنائي ونزلت بالقاهرة لأواصل الرحلة التي بدأتها بعد خروجي للمعاش ولم تعجب أولادي حين استبدلت "بدلتي" الأنيقة والكرافت بجلباب وغطاء علي الرأس.. وحين ابتعدت عن أصدقاء العمر "الماضي" لأحل أينما حل الفقراء علي الأرصفة أو في محطات القطارات.. تركت من ذبحوني بعقوقهم وصرت لصيقاً بمساجد أهل البيت خادماً في محرابها ورفيقاً لروادها من عشاق الموالد. * ................ ؟ - 13 سنة وأنا بعيد عنهم متفرغ للاطلاع والاستزادة من العلوم الدينية والروحية إلي جانب أنني حاصل علي مؤهلين جامعيين سعيت للحصول علي دبلومة في علوم القرآن من جامعة الأزهر وظللت أنهل من تلك المعارف حتي صرت عاشقاً لدرب التصوف والمتصوفة.. وطوال هذه المدة لم أفكر في معرفة أخبار أولادي فقد شغلني الفقراء عنهم بل قد تفاجئين لو قلت أن بناتي هن اللائي بدأت في البحث عني حتي علموا بمكاني من أحد زوار الموالد. جئن إليّ منذ أيام ليس طلباً للصفح والسماح إنما لاغاثتهن فقد احترقت بعض أملاكهن بفعل أحمق من بعض البلطجية وما كان لي ردهن فهن بناتي وسأظل بجانبهن حتي ينال الجناة جزاءهم. * ................ ؟ - جئت لأبعث رسالة عبر نافذتكم لكل من يتردد في التوبة وطي صفحات حياته التي نالها من الشبهات ما نال: سارع من الآن ولا تؤجل توبتك فمن يذوق حلاوة الايمان الحق والقرب من الله يتمني لغيره سرعة ادراكها.. أيضاً لأقول للاباء الذين يتألمون من عقوق ابنائهم جحودهم: صبراً جميلاً لعل في قصتي العبرة والعظة. ** انتهي حواري مع الشيخ الضيف لكن قبل انصرافه فاجأني باصراره علي نشر اسمه بالكامل قائلاً والانفعال يسيطر عليه: نعم انشروا اسمي ولقبي الجديد المحبب إلي قلبي "الشيخ صلاح محمد خلف الله" عسي ان تعلم كل الدنيا أنني أصبحت إنساناً آخر.. إنساناً يعمر قلبه حباً للفقراء والمساكين ويدرك الحقيقة التي غابت عنه لسنوات طوال بأن الله طيب ولا يقبل إلا الطيب. نزلت علي رغبة الشيخ. رغم حرصي علي سرية البيانات الخاصة بقرائي حفاظاً علي الروابط الأسرية أو ما يتبقي منها في ظل الشروخ العميقة التي لا نجد عائلة اليوم لم يصبها سهم منها!! أجراس إنذار دقتها بشدة ما حفت به رحلة هذا الانسان التائب من أحداث عسي ان ينتبه إليها كل من يزال يتملكه اليأس من رحمة الله ويتردد في مراجعة نفسه.. وعسي ان يلتفت لها هؤلاء الأبناء الذين سقطوا في هوة العقوق ليتداركوا حالهم بارضاء أبويهم خاصة ان العقوق من المعاصي التي يعجل بعقابها في الدنيا قبل الآخرة. هدانا الله جميعاً إلي طريق البر والرشاد وجنبنا شر الغفلة.. وقسوة القلوب.