أعادني صديقي العزيز مجدي سالم رئيس تحرير "عقيدتي" السابق إلي زمن الطرب الجميل.. الكلمات الحلوة والألحان الشرقية التي تدغدغ المشاعر وتجعل الإنسان يعيش عالماً خاصاً يمر فيه شريط الذكريات. كنا نتجاذب أطراف الحديث أنا وهو وصديقنا المشترك محمد يوسف العزيزي رئيس تحرير جريدة "الرأي" السابق عن الأوضاع الراهنة وكان النقاش ساخناً جداً.. وفجأة.. سألني: هل تحب أن تسمع أغنية تخرجنا من هذا الجو الكئيب الذي يفور الدم ويثير الأعصاب؟؟ فوافقت علي الفور لأني فعلاً زهقت وقرفت من السياسة وأحداثها.. وطلبت منه أغنية لأم كلثوم. سكتنا نحن الثلاثة وكأن علي رءوسنا الطير.. ننصت باهتمام إلي أم كلثوم وهي تشدو "حب إيه اللي أنت جاي تقول عليه.. أنت عارف قبله معني الحب إيه؟؟".. وكأننا نسمع الأغنية لأول مرة حتي انتهت. طوال فترة الاستماع الاختياري التي ازالت بالفعل همومنا المتراكمة.. مر بخاطري كيف كنا نعلن حالة الطوارئ في البيوت ليلة حفل أم كلثوم.. نضبط مؤشرات الراديو. ونشتري طعام العشاء واللب والسوداني.. ثم نجلس في حلقات نستمع إلي وصف تفصيلي لفقرات الحفل وكلمات الأغاني الجديدة وأسماء الضيوف الذين توافدوا من كافة الدول العربية.. وصولاً إلي ألوان الفساتين وأنواع الحلي التي ترتديها كوكب الشرق. وبعد انتهاء الحفل.. نتسابق في ترديد كلمات الأغنية الجديدة ومعانيها لنري من منا استطاع أن يحفظها كلها أو بعض الكوبليهات. إن أم كلثوم.. لم تكن مجرد مطربة مشهورة أو حتي الأشهر.. بل هبة من السماء وحالة خاصة وفريدة وبصمة لا ولن تتكرر علي الأقل لعدة قرون قادمة.. كما كان لها مواقف وطنية لا تعد ولا تحصي يتشرف بها التاريخ ويكتبها بحروف من ذهب. لقد غنت أم كلثوم لأساتذة كبار وشعراء عظام ولحن لها أشهر الملحنين.. فزادت الكلمات جمالاً والألحان عذوبة والأسماء شهرة ولمعاناً. أم كلثوم بالفعل "أفسدت آذاننا".. فلم نعد نستسيغ صوتاً آخر.. إذ كيف لمن عشق "الكوكب" أن يرضي بمجرد "جرم" مهما كان بريقه ولمعانه..؟؟! أيضاً.. من ينسي لأم كلثوم جولاتها الخارجية في كافة الدول العربية والأوروبية لجمع الأموال من أجل المجهود الحربي بعد النكسة..؟؟ نعم.. كان جيلنا وكل الأجيال التي سبقتنا في قمة الحظ لأننا عشنا زمن أم كلثوم.. زمن الطرب الجميل بحق والذي ظهر فيه أيضاً العديد من المطربين والمطربات الممتازين مثل وردة الجزائرية ونجاة الصغيرة وفايزة أحمد وشادية وصباح وفيروز وعبدالحليم حافظ وفريد الأطرش ومحمد فوزي وكارم محمود وغيرهم.. ومع ذلك ظلت أم كلثوم بمنأي عن أي مقارنة مع آخريات وآخرين. لقد فقد الطرب الجميل رونقه وبريقه يوم ماتت أم كلثوم.. ثم أغلق الباب "الموارب" لهذا الفن باختفاء هؤلاء الكبار.. وفاة أو اعتزالاً. الطرب الآن.. جسد بلا روح.. ولكن لله في خلقه شئون.