هل يستطيع الناقد السينمائي أن يتحرر من السياق الثقافي والاجتماعي والقيمي الذي يعيش في إطاره. بينما يتوجه بكتاباته لجمهور يعيش نفس هذا السياق المحكوم بمبادئ ونسق أخلاقي فضلاً عن الأعراف والتقاليد النابعة من تاريخه وتقاليده وانتمائه الأيدولوجي؟؟ مر هذا السؤال ضمن خواطر كثيرة أخري وأنا أفكر في فيلم "آنا كارنينا" المعروض حالياً والمرشح للأوسكار.. الفيلم مأخوذ عن رواية الكاتب الروسي العظيم ليو تولستوي "1828-1910". وهذه النسخة الأخيرة تعتبر اقتباساً جريئاً بأسلوب وخيال سردي جديد للرواية التي قدمتها السينما الأمريكية والروسية والإنجليزية وحتي المصرية "نهر الحب" وكتب لها السيناريو توم ستوبارد فهو "سيناريست وكاتب مسرحي" وأخرجها جورايت "الكبرياء والعاطفة" وقد حققت نجاحاً نقدياً كبيراً عند عرضها وفي أوروبا وأمريكا ولا أعرف إن كانت حققت نفس النجاح هنا في مصر.. الجمهور المصري صاحب مزاج خاص. يفضل الحواوشي والسجق الحريف ويبتهج ببطل مثل "عبده موتة" أكثر من بطلة علي غرار "آنا كارنينا". الفيلم دراما رومانسية أمام خلفية تاريخية تدور أحداثها في روسيا القيصرية إبان القرن التاسع عشر. في مقدمة الخواطر التي طافت في عقلي وأنا أتامل من جديد شخصية "آنا كارنينا" في هذا التوقيت وذات المناخ الاجتماعي والسياسي والفني والثقافي المتسيد الآن في مصر. "آنا" امرأة خالدة في تاريخ الأدب الروائي والسينمائي وحتي المسرحي وهي شخصية صادمة بالنسبة للعصر الذي ظهرت فيه.. إنها سيدة ارستقراطية ترفل في نعيم مادي ومكانة اجتماعية متميزة وهي أنثي تمتلئ بالحيوية جميلة توافة للحب تمتلك روحاً حرة. يجذبها الحب إلي فارس وسيم مندفع ولعوب تصده في البداية ولكنها سرعان ما تقع في هواه. ولكن كيف لإمراة متزوجة من رجل من النبلاء يكبرها بعشرين عاماً متزمت ومحافظ وله منها صبي جميل أن تحب وتتمرد؟؟ مع تطور المشاعر تعجز آنا أن تكبح رغبتها وانسياقها وراء نداء المشاعر. "آنا" إذن امرأة خارج السياق الاجتماعي والأخلاقي والديني لعصرها مواقفها تتعارض مع تقاليد روسيا القرن التاسع عشر التقاليد التي تسمح للرجل بما لا يمكن أن تسمح به للمرأة والطلاق مستحيل ومواجهة المجتمع كعاشقة جريمة. وتواجه آنا حكماً غير معلن من قبل محيطها الاجتماعي وإدانة أخلاقية وإنسانية وأسرية من قبل زوجها المحافظ المهذب الحريص جداً علي صورته ومكانته والصارم المتمسك بمبادئ الدين والشرف والأعراف الاجتماعية وقد حاول أن يثنيها عن التمادي في علاقتها الآثمة دون فائدة. اصطدم حب "آنا" بالغيرة وشهوة التملك والخوف الشديد من فقدان الحبيب المنفلت وفقدان الابن إذا هي تمادت في علاقتها. وتحمل "آنا" وتلد طفلة من عشيقها يتبناها الزوج بعد أن تنتحر وتلقي بنفسها تحت عجلات القطار. بعيون عصرها المحافظ تعتبر آنا زانية خاطئة تعاقب بالرجم حتي الموت.. والتعاطف معها يشكل جوراً علي التقاليد والدين والأخلاق. وعلي جانب آخر ومن منظور إنساني أكثر رحابة وتفهماً يمكن النظر إليها باعتبارها كيانا بشريا ضاق بالقفص الذهبي الذي حبست داخله انها حزمة أعصاب وكتلة مشاعر وبركان متفجر من الأحاسيس وسط بيئة باردة رتيبة ومحاصرة بقيود تخنق الروح. في أحيان كثيرة يلعب المجتمع دور السجان يتحمل أفراده النفاق والكذب ولا يتحمل الحقيقة والوضوح. لعبت دور آنا كارنينا أحلي وأقوي ممثلات عصرهن.. جريتا جاربو "1935" وفيفيان لي "1947" وصوفي مارسو "1997" وفاتن حمامة "1960" وأخريات.. وفي كل مرة يضيف المخرج من عنده رتوشه الخاصة علي هذه الشخصية التي اكتسبت وجوداً مستقلاً خارج إطار الشاشة. يقوم بدور آنا في هذه النسخة الأخيرة الممثلة الفاتنة كيرا نايتلي ومثلهن تواجه نفس العقاب: الموت تحت عجلات القطار. عاقب تولستوي آنا كارنينا بما تستحقه من منظور عصره فهي ليست مثل "نورا" بطلة إبسن في المسرحية الشهيرة "بيت الدمية" التي عالجتها السينما مرات.. "نورا" أكثر عصرية تمردت علي المجتمع الذكوري الأبوي المتسلط علي مقدرات المرأة وخرجت إلي حيث تواجه مصيرها ولكن بإرادتها. بماذا يحكم الناقد علي "آنا"؟ هل يعاقبها كامرأة زانية وقفت ضد "المقدسات" هل يتفهم موقفها كإنسانة ويتعامل معها كروح حرة تتوق إلي الحب والحرية فكان مصيرها الفرم تحت عجلات قطار؟؟ إن فهم الدوافع الإنسانية وتفهم البشر من حيث كونهم بشرا.. وقد ولد الإنسان ضعيفاً مهما بلغ من القوة. آنا كارنينا خرجت من صفحات كتاب وانطلقت بلغات عديدة فوق الشاشات وقدمت لعشاق السينما متعة فنية كبيرة في بلاد الدنيا.