"روز" Rose اسم الفيلم البولندي الذي حصل علي الجائزة في مسابقة حقوق الإنسان في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الأخير "2012" وهي جائزة واحدة تمنح لأفضل فيلم داخل المسابقة.. و"روز" معناها وردة هو اسم المرأة التي تشكل العمود الفقري في بنية هذه التجربة السينمائية المدهشة.. الفيلم دراما تاريخية تستدعي صفحة غير معروفة في تاريخ بولندا تدور أحداثها في نهاية الحرب العالمية الثانية 1945 في منطقة "ماسوريا" التي تقع علي الحدود بين بولندا وألمانيا وكانت تابعة لقرون طويلة لألمانيا.. يقدم الفيلم تجربة جحيمية للحرب منظور إنساني خالص ومن خلال تأثيرها المدمر علي حياة الإنسان الفرد.. الفيلم رائع بالفعل ويذكرنا بأفلام عظيمة عالجت نفس التجربة مثل فيلم "تعالي وانظر" "Cane and see) للمخرج الروسي إلم كليموف. بطلة الفيلم "روز" عاشت حياتها في هذا المكان وتزوجت من جندي ألماني خاض تجربة الحرب وقتل في المعارك.. وحتي يفهم المتفرج التجربة الخاصة والفريدة للأرملة "روز" عليه أن يقرأ المقدمة المكتوبة علي الشاشة قبل أن تبدأ الأحداث. تقول المقدمة: منذ حوالي سبع قرون عاشت مجموعة من القري الصغيرة المتجاورة علي الحدود بين بولندا وألمانيا في منطقة "ماسوريا" وقام السكان "الماسوريين" طوال هذه السنوات بتطوير لغتهم وعاداتهم وتقاليدهم الاجتماعية ومعتقداتهم الدينية. وبعد الحرب وبمقتضي اتفاقية بوتسدام أصبحت "ماسوريا" جزءاً من بولندا. وتعرض سكانها إلي عملية تطهير واضطهاد وحشي إذ كان علي كل واحد منهم أن يندمج عنوة في المجتمع البولندي وأن يكتب طلباً اجبارياً لحصوله علي الجنسية البولندية وألا يتحدث بغير البولندية ومن يرفض يتعرض للسطو والنهب والاغتصاب ويتم ترحيله إلي ألمانيا. وفي اجواء ما بعد الحرب مباشرة غاب القانون والنظام فالمنتصرون الروس يتلذذون بالاغتصاب الجماعي للنساء والمهزومون الألمان يسطون علي ما يمكن السطو عليه قبل الانسحاب فقانون الغاب هو سيد الموقف في هذا التوقيت. و"روز" امرأة "ماسورية" من أهل هذه المنطقة. تعرضت للاغتصاب والعنف البدني مرة تلو المرة في غياب الزوج حتي اصيبت بالمرض وماتت. ولكنها رغم الانتهاك اللا إنساني الذي حول حياتها إلي جحيم ظلت تحمل روحاً نقية تواقه إلي حياة آدمية تتلمس الضوء في اجواء معتمة وتبحث عن الخبز من أرض مزروعة بالألغام. ووسط هذه الوحدة والبرودة يدق بابها الجندي "تاديوز" الذي شهد مقتل زوجها. جاء إليها حاملاً ماتبقي منه وهو تحديداً. صورة تجمعها به وخاتم الزواج.. الصورة الفوتوغرافية البالية تكشف مدي حرص الزوج علي الاحتفاظ بها رغم عوامل التدمير والقتل التي أودت بحياته في النهاية. إن الجندي حامل الرسالة كان من ابطال ثورة وارسو وهو نفسه مثقل بالهموم وبقسوة التجربة فقد نجا من الموت بأعجوبة وخاض أهوالاً ولكنه يحمل مازال مشاعر إنسان طيب ونبيل.. ظهر "تاديوز" في بداية الفيلم قبل أن تظهر روز ونتعرف عليها. رأيناه وقد سقطت رأسه فوق وحل البراري التي شهدت المعارك. عاجزاً عن الحركة. عيناه مفتوحتان علي منظر زوجته القريبة منه بينما يغتصبها جندي ألماني ولم يتركها قبل أن يفرغ رصاصة في رأسها تنهي حياتها. وبرغم الإنهاك والعجز يزحف "تاديوز" إلي حيث ترقد جثة زوجته. يقبلها ويجاهد حتي يدقها ثم يبدأ مشواره الطويل حاملاً الرسالة إلي "روز". يظهر وسط الطبيعة يبتعد ويتضاءل حجمه في عمق اللقطات العامة في المساحات الساكنة المترامية والمهجورة إلا من جثث القتلي. حيث يغتال السكون أحياناً طلقات مدافع لجنود اعتادوا القتل وقد حولتهم الحرب إلي وحوش!! روز والقسيس الطريق إلي "روز" التي لم يكن يعرفها ولا يعرف عنوانها يقود الجندي الناجي من الحرب إلي الكنيسة حيث يلتقي بالراعي الصالح وبدوره يشكل شخصية محببة لرجل الدين الذي عليه أن يغير لغته ويرتل صلواته بلغة بولندية لم يتعلمها. أمام جمهور متدين مفروض عليه جنسية أخري ولغة غير التي اعتاد التواصل بها مع الناس. فقد تعرض القس بدوره إلي الاضطهاد والترويع وأجبر علي التحدث بالبولندية. الفيلم وسط هذا الخراب المادي والإنساني الذي خلفته سنوات الحرب. يصور قصة حب عابرة وقصيرة بين أرملة "ماسورية" وبين جندي بولندي اغتصبت زوجته واغتيلت علي يد الألمان! يرسم المخرج الظروف التي احاطت باللقاء الأول بين روز الحزينة والمغتصبة والمهددة بالترويع والترهيل وبين الجندي الشجاع بكاميرا واحساس وروح شاعر ثم يطور العلاقة التي بدأت بدافع إنساني ويهدف رعاية هذه المرأة وحمايتها من الاغتصاب وأيضاً لنزع الألغام من مزرعة البطاطس التي تركها لها الزوج. بدأت هكذا باحترام عملي ولكنها احيطت بعداء وتربص من قبل السكان البولنديين المحليين الرافضين لروز باعتبارها ألمانية ولم تتقدم بطلب للحصول علي الجنسية البولندية. وهو طلب اذعان مهين وقاسي. ثم تتطور هذه العلاقة تدريجياً إلي تعاطف وعاطفة رفيعة. في هذه الفترة 1945 بعد انتهاء المعارك رسمياً قامت السلطات الشيوعية في بولندا بتقسيم أصل ماسوريا إلي فريق ينتمي إلي بولندا الشيوعية بعد قبول التحقيق الرسمي للحصول علي الجنسية وفق برنامج عنصري يتم للتأكد من الانتماء العرفي. والنصف الآخر يتم تصنيفهم كألمان وهؤلاء يتم ترحيلهم إلي ألمانيا في قطار تاركين أراضيهم ومنازلهم وكل ما يملكون لمن قاموا بالسطو علي هذه الممتلكات. الفيلم يتميز ببراعة فنية لافتة في اشاعة اجواء الحرب. وتصوير خصوصية ما حدث في هذه الصفحة التاريخية بطريقة مرهفة مع قدرة علي شحن الأجواء بالعنف ومشاهد الاغتصاب الفردي والجماعي المتكرر علي النساء. وتصوير هذه البشاعات الإنسانية بحساسية فنية لا تكشف عن تفاصيل تؤذي المشاعر وتضاعف من الشعور بالصدمة وذلك بتوظيف جيد لعنصر الاضاءة والألوان التي غلب عليها الأزرق والرمادي والأخضر الباهت. وباستخدام اللقطات العامة مع حرصه علي عدم التفريط في دلالات المشهد الذي يضاعف من وقعه الأداء البليغ للممثلة والتعبير الدقيق عن جحيم الألم والمعاناة ولا يمكن اغفال عنصري المكياج والملابس هنا بطبيعة الحال. وفي مقابل هذه الكوارث التي تنتهك إنسانية المرأة والتي تقاوم بروح صلبة فلا يهزمها سوي الموت في مقابل هذه القسوة والخشونة يصور المخرج لحظات ناعمة وشحيحة جداً من مشاعر السعادة المكتومة والعابرة وتحت اشعة شمس مخنوقة مع قارب صغير يطفو فوق بحيرة تلوثت مياهها ببقايا بشر قصفت المعارك أعمارهم. وفوق القارب تجلس "روز" ورفيقها.. وكأنهما في حلم لن يكتمل بسبب العواصف. الأسلوب الذي اتبعه المخرج في تصوير هذه الدراما الواقعية التاريخية يكرس مشاعر الألم. واليأس. والخراب والبؤس البشري عندما تنتهك المبادئ الإنسانية ويتحول الإنسان إلي وحش آدمي. عنصر الموسيقي يضيف ويؤكد إلي المزاج الأليم الذي يغلق اجواء الفيلم وكذلك الحوارات المقتضبة وأثقال الصمت المفروض والمكسور فقط بأصوات المدافع وفي خضم هذا الركام من المشاعر المعادية للإنسان يبدو مشهد الحب الذي جمع بين روز وتاديوز مثل الواحة البعيدة في صحراء قاحلة مترامية. وقد حرص المخرج علي تصويره من مسافة قريبة وبكاميرا محمولة حتي يبدو شديد الحميمية والحسية ويفوح بعبق المشاعر الدافئة وبالشجن.. لقد كان هذا المشهد الرقيق أشبه ببيان أو تعليق شاعري علي القيمة الإنسانية الأبدية للحب وللسلوك الإنساني المتحضر ومثله مشهد النهاية الجميل الذي يصيع المضمون ذاته في لقطة عامة وسط الطبيعة ومن زاوية مرتفعة تبدأ بالجندي ومعه ابنة روز في مرحلة لاحقة. والاثنان فوق دراجة منطلقان إلي حيث لا ندري.. من التجليات الفنية اللافتة في هذا العمل أداء الممثلة البولندية اجاتا كوليزا في دور "روز دور" مثل كل الأدوار العظيمة يمنحها حياة خارج اطار الشاشة ويضعها في ألبوم الذاكرة مع شخصيات أخري جلدتها السينما. حقق الفيلم ومخرجه فويشنج سمارزوسكي "مواليد 1963" نجاحاً كبيراً في بلاده إذ حصل علي الجائزة الكبري في مهرجان وارسو وجائزة أحسن فيلم واخراج وتمثيل وممثل مساعد وسيناريو كما حصل علي جائزة الجمهور وجائزة النقاد في المهرجان القومي في جدينا ببولندا.. وعلي جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان الفيلم البولندي في الولاياتالمتحدةالأمريكية بسبب امتيازه الفني ولولا عروضه هذه لكان جديراً بالدخول في المسابقة الرسمية للمهرجان في القاهرة.