يعيش المصريون هذه الأيام حيرة وضع بنود الدستور الجديد فلم يمر يوم تقريبا إلا ويتم إدخال اقتراحات وتعديلات علي مواده.. في الوقت الذي يمتلك فيه المسلمون دستوراً كتبه رسول الله - صلي الله عليه وسلم - منذ أكثر من 1400 سنة حقق فيه العدل والمواطنة والتسامح والمساواة وكفل فيه جميع حقوق الإنسان. ونحن نحتفل بأول يوم في العام الهجري الجديد وذكري هجرة رسول الله - صلي الله عليه وسلم - وتأسيسه للدولة الإسلامية وإقراره لدستور المدينة يثور تساؤل مهم كيف تعامل النبي الكريم مع أطياف المجتمع المختلفة من عصبية قبلية ومشركين ويهود وكيف يمكن الاستفادة من وثيقة المدينة في الدستور الجديد خاصة وأننا نعيش ظروفا متشابهة لما واجهها الرسول الكريم في مجتمع المدينة بما نراه حاليا في سيناء؟! يقول د.أحمد محمود كريمة - أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر - إن الله سبحانه وتعالي قال في كتابه العزيز "لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب" والهجرة النبوية معلم ظاهر وباهر في سيرة النبي - صلي الله عليه وسلم - ولم تكن مجرد الانتقال المكاني بقدر ما كانت انتقال عقول وقلوب إلي مدارج الكمال. ومن جلائل الأعمال التي أعقبت الهجرة النبوية المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ومعالجة العصبية القبلية والطائفية. قال - صلي الله عليه وسلم - "ليس منا من دعا إلي عصبية" والمجتمع المعاصر بأطيافه السياسية وتنوعاته الفكرية وتياراته الدينية بحاجة ماسة وعاجلة إلي المؤاخاة بمعني المصالحة الوطنية فلا يقسم المجتمع إلي فلول وغير فلول ولا تنطلق قذائف التخوين والعمالة والتكفير. أضاف د.كريمة أن القوانين الدستورية في مجتمع المدينة مثل وثيقة المدينة تشتمل علي 54 بندا تؤسس مجتمعا مدنيا تعظم فيه الشرائع.. فيها حقوق المواطنة والتسامح وقبول الآخر والتعايش معه والسلام الاجتماعي وحقوق التملك والتنقل وحقوق الإنسان في شتي المجالات وصار مجتمع المدينة مجتمعا مدنيا لا غلبة لأصحاب شريعة علي ما سواها.. فمعاهدات سلمية مع اليهود المسالمين تضمن لهم العيش الكريم واستقبال وفود النصاري وتأمينهم علي دمائهم وأموالهم وأعراضهم. بهذه الأعمال أسس النبي - صلي الله عليه وسلم - مجتمعا مثاليا.. ونحن بحاجة إلي التوافق المجتمعي في الدستور المرتقب لا يصبغ بصبغة مذهبية أو طائفية بل تراعي فيه الحقوق والحريات العامة والأمن المجتمعي والعيش الكريم باستلهام روح "فقه الهجرة النبوية" كعمل مؤسسي لمجتمع مترابط فيه الاخاء الانساني والديني وزمالة الشرائع والتعاون المشترك لرفعة البلاد ونفع العباد. أشار إلي أن من فقه الهجرة النبوية إبلاغ الدعوة بصور سلمية تراعي الأصول العامة للإسلام من احسان الظن وعدم التنابز بالألقاب وعدم الاضرار بالغير وعدم السعي لإلغاء الغير أو التعدي عليه.. وعدم استحلال الدماء والأموال والأعراض والبعد عن منابع تكدير السلم العام.. ومن أشد بواعثه التكفير الذي هو اخراج الناس عن معتقداتهم لأمراض الغلو والتشدد.. ويؤدي ذلك إلي العنف الفكري والذي يؤدي إلي العنف المسلح وكلاهما مجرم في الإسلام مهما كانت المبررات قال الله تعالي: "ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله علي ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولي سعي في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد". لذلك كما يقول د.كريمة يجب معالجة ما يحدث في سيناء بتجفيف منابع العنف الفكري ومراقبة تصرفات وأعمال بعض التيارات التي تنشر مرض التكفير في المجتمع.. ولو أدي إلي منع هذه التيارات للحكمة المعروفة "درهم وقاية خير من قنطار علاج". أكد انه لابد أولا من إجراء الحوار المجتمعي العلمي المعرفي من أعلام الدعوة الإسلامية بجامعة الأزهر فهم بما لهم من خبرة ودراية أقدر علي تفنيد شبهات قواد جماعات العنف الفكري - السلفية الجهادية - وتغليظ العقوبات الزجرية الرادعة دون انصاف حلول جمعا بين التدابير الوقائية والزجرية. جهاد وتضحية يقول الدكتور حسين شحاتة - أستاذ الاقتصاد الإسلامي بجامعة الأزهر - لم تكن هجرة رسول الله - صلي الله عليه وسلم - والذين آمنوا معه نوعا من الترويح عن النفس أو من أجل الفرار بالمال أو الهروب من الجهاد أو الفرار من مضايقات أعداء الدعوة الإسلامية ولكن كانت جهادا وتضحية من أجل بناء الدولة الإسلامية علي أساس الأخوة الصادقة القوية ولتطبيق أحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية كانت رحلة الهجرة الشريفة كذلك من أجل نشر الإسلام والدعوة إليه وتحقيق العزة للمسلمين من خلال الجهاد ولقد تحققت هذه الغايات وجاء نصر الله والفتح ودخل الناس في الدين الإسلامي أفواجاً. لفت إلي أنه بعد أن هاجر محمد رسول الله - صلي الله عليه وسلم - من مكة إلي المدينة بني المسجد ليكون المنطلق للتربية الإسلامية ورعاية شئون المسلمين في جميع المجالات ثم أسس المجتمع الإسلامي علي أسس العقيدة السليمة والعبادة الصحيحة والأخوة والحب في الله ليكون منه القيادة المسلمة المنضبطة بشرع الله وهذا ما يسمي في الوقت المعاصر "الجبهة الداخلية" ثم بعد ذلك انشأ السوق الإسلامية ليحرر مال المسلمين من الخبائث والمعاملات الظالمة وهذا ما يطلق عليه في الاقتصاد "البنية الاقتصادية الأساسية" وحتي يؤكد للناس شمولية الإسلام فهو دين ودولة وعقيدة وشريعة وحب وجهاد وتضحية وقوة ونصر. أضاف د.شحاتة ان الهجرة تتضمن معالم شتي من نماذج التضحية العزيزة ومن الأخوة الصادقة التي قامت عليها دولة الإسلام ويجب إبرازها للاستفادة منها في حياتنا بعد أن أصاب العديد من المسلمين الوهن والأنانية وضعفت رابطة الأخوة والود حيث نخلص من هذه النماذج إلي أن بناء الدولة الإسلامية يحتاج إلي جهاد من جديد وهذا الجهاد لابد له من تضحية بكل عزيز فلا يمكن تحرير المقدسات الإسلامية بالخطب والمقالات والمؤتمرات والندوات ولكن بالجهاد بالمال وبالنفس وبكل عزيز وغال إلي جانب أن لرابطة الأخوة والحب في الله دورا هاما في بناء الدولة الإسلامية علي الحرية والعدل والمساواة والشوري. أكد ان الأهداف المنشودة من الهجرة إقامة دين الله وحماية الجماعة التي آمنت من بطش المشركين الكافرين مع نشر دين الله وجعل كلمته هي العليا وكلمة المشركين الكافرين السفلي بالاضافة إلي تأسيس الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية التي تطبق شرع الله في كل نواحي الحياة من خلال المجتمع الإسلامي المتآخي المترابط المتحاب وهذا أمر هام واستراتيجي وعظيم يجب أن توضع له السياسات ويخطط له بحجمه وينفذ بنظم وبرامج وبأساليب رشيدة. ينصح د.شحاتة رجال ومنظمات الدعوة الإسلامية علي مستوي كل قطر وعلي مستوي الأمة الإسلامية أن تكون لهم استراتيجيات محددة وواضحة بدلا من أن تكون جهودهم آنية في ضوء الأحداث المستجدة وبدلا من أن تكون أعمالهم رد فعل تكون وفقا لاستراتيجية يتعاون الجميع لأن يكون عملهم وفقا لها. يدعو أن يكون للمسلمين قوة اقتصادية تستطيع بها المحافظة علي أموالهم وتنميتها بالحق وأن تكون لهم سوق خالية من كل صور الغرر والربا وأكل أموال الناس بالباطل تقوم علي الطيبات والحلال والصدق والأمانة والتسامح والقناعة وخالية من الاحتكار.. وتأتي أهمية السوق الإسلامية للدول العربية من أهمية وجود كيان اقتصادي قوي للمسلمين في مواجهة الكيانات الاقتصادية الدولية المعاصرة والتي يسيطر عليها غير المسلمين. أول دستور مكتوب يقول الدكتور محمد أمين بدوي - أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة الأزهر - إنه بعد أن هاجر رسول الله -صلي الله عليه سلم - إلي المدينة أصدر ما يعرف بوثيقة المدينة التي تعد أول دستور مكتوب في التاريخ يعترف بحقوق المواطنة وينظم العلاقة بين أطياف المجتمع الذي يضم المهاجرين والأنصار والعرب المشركين واليهود فأخرجت بنود الوثيقة المجتمع من دوامة الصراع القبلي ونقلته لآفاق الأخوة والتسامح والمحبة.. واعتبرت جميع سكان الدولة شركاء في نظام سياسي واحد يضمن لهم حقوقا متساوية تحت مظلة حماية الدولة مقابل أن يؤدي كل فرد واجبه في الدفاع عنها.. ولقد وقع علي هذه الوثيقة سكان المدينة كلهم ورضوا بها دستوراً حاكماً بينهم لما وجدوه بها من عدل ومساواة حيث اشتملت بنودها علي مبادئ انسانية سامية مثل نصرة المظلوم وحماية الجار ورعاية الحقوق الخاصة والعامة وتحريم الجريمة والتعاون في دفع الديات وافتداء الأسري ومساعدة المدين وغير ذلك من المبادئ التي شعر من خلالها جميع المواطنين أنهم أسرة واحدة رغم اختلاف أجناسهم وأعراقهم ومعتقداتهم. أضاف ان الإسلام كفل الحرية الكاملة في مجال العقيدة لكل المواطنين وعلي الرغم من أن تبليغ الرسالة ونشر دين الله كان هو الهدف الأسمي للمؤمنين وقتئذ إلا أن ذلك كان يتم دون إكراه أي شخص علي اعتناق دين معين بل أعطي الحرية لكل انسان ان يستمر علي دينه كما منحه حرية تبديله إذا رغب في ذلك. أشار إلي أن المادة 42 من وثيقة المدينة والتي تنص علي الرجوع إلي رسول الله - صلي الله عليه وسلم - في حالة ظهور أي خلاف يخشي من عواقبه وإنما اقترحها اليهود والمشركون حيث إن الفوضي كانت تعم المدينة فظهرت الحاجة للجوء إلي مرجع محايد يستطيع حل المشاكل التي كانت قائمة بين القبائل وكان الاتفاق علي أن يمنح محمد هذه الصلاحية ويكون هو هذا المرجع.. وهنا تتجلي عظمة الرسول الكريم الذي كان يخير من يراجعه ويسأله إذا كان يريد أن يحكم بينهم بالقرآن أم بالتوراة ليعطي المثل الأعظم في تطبيق مبدأ الشوري والحكم برأي الجماعة.