مع تجدد رحلة الحج كل عام ومنذ مئات الأعوام يتوافد الحجيج إلي بيت الله الحرام وإلي الروضة النبوية الشريفة يؤدون ركنا مهما من أركان الإسلام. رحلة الطهر هي نبض ملايين الكلمات التي عبرت بها الأفلام عن اللحات النورانية. العلوية. لكن اللحات رغم ثباتها تتجدد. وتهب النفس المؤمنة تأثيرات لا تزول. في تقدير الروائي نبيل عبدالحميد ان الله سبحانه وتعالي جعل الحج ليتخلص الإنسان من كل ذنوبه. وعليه أن يدعو ليوفقه الله في هذه الرحلة ويعود نيفا. طاهرا. تخلص من أدران الحياة كما ولدته أمه. كما قال الرسول صلي الله عليه وسلم. الإنسان يترك كل شيء. ويذهب بمشاعر متوجهة إلي الله وحده. والشعائر معروفة لكل الناس يأخذ كل واحد منها ما يحتاجه من الدعاء الخالص من القلب. الجميل ان الإنسان يجد نفسه مع ملايين من البشر مختلفي الأعمار والأجناس والمستويات الاقتصادية ويشعر انه ذرة في مجرة كبيرة جداً. وفي زمزم يرتوي الإنسان من مائه ويتذكر قصة هاجر وابنها إسماعيل. ولا يمكن أن أصف مشاعري وأنا أسعي بين الصفا والمروة ما فعلت سيدتنا هاجر ورغم أن الأشواط السبعة طويلة فإن المرء لا يشعر بالتعب أبدا من هذه الشعيرة الروحانية الطاهرة. ثمة حجاج تصورنا انهم لن يقدروا علي السعي ولو خطوتين لكننا نفاجأ بأنهم يؤدون الشعيرة دون أي تعب. أما مشكلة رمي الجمرات التي ذللت مؤخرا فقد كانت صعبة لحرص الكل علي الاقتراب من موضع رمي الجمرات لذلك كانت المرأة تنوب عنها في رمي الجمرات أحد محارمها وهذه رحمة من الله علي عباده. ويعبر الناقد مجدي العفيفي عن مشاعره أمام البقاع المقدسة بأنها ارتعاشة وجدانية أو رشة عطر رباني من حديقة غناء تتمني ألا تخرج منها حتي آخر العمر لحة أن يتحرر المخلوق من ثيابه الدنيوية لا شيء يستره إلا سترة أرادها الله إحراماً هي لحة تجرد من الدنيا بما فيها ومن فيها لحة يتجرد فيها القلب لتكون بحر أنفاس شهيق وزفير وأثير. هكذا يريدني الذي خلقني من تراب ثم نفخ في من روحه. انها لحة ميلاد جديدة عشتها كنبوءة مخبوءة في دمي منذ سنوات. ثمانية أيام في مدينة الرسول في حضرة الحرم النبوي الشريف وعشرة أيام في حضرة البيت الحرام في جنبات أول بيت وضع للناس أيام بل لحات لا تحسب من العمر ولا تحسب بالعمر. الأحاسيس خارج دائرة كل المقاييس والتحديد والتأطير والتنير والتفكير البشري المحدود وحتي الممدود هكذا أتذكر والذكري تنعش الفؤاد وتدثر القلب. قبل الزيارة التي يتشرف كل من يسعي إليها قالوا لي: لا تعمل عقلك وأنت تؤدي المناسك. خيل لي أن العملية ستكون آلية قالوا: تحرك بقلبك وأنت تطوف وتسعي وترمي وتبيت وتقف. تجاذبتني الحيرة. والغيرة أيضا. تذكرت سيدنا إبراهيم عليه السلام الذي قال له ربه: اسلم. قال: أسلمت لرب العالمين وهو أيضاً الذي قال لربه: "أرني كيف تحيي الموت قال: أو لم تؤمن؟ قال: بلي ولكن ليطمئن قلبي". وتعطرت أيضاً بالقول النبوي الشريف: خذوا عني مناسككم". يا إلهي كيف أحج وأتحرك بتنفيذ الأمر فقط بالعضلة التي تضخ الدم؟ لقد ذبت كلي لحة أن دخلت الفضاء الحرمي المكي والمدني وانفعلت وتفاعلت كل الجوارح وتساقطت كل الفروق بين السمع والبصر والفؤاد والعقل والقلب والنفس وكل وسائل الإدراك وصار الرحيق حريقا والحريق رحيقا وأصبح الكل في واحد وكان الواحد اللطيف القهار الذي هو في الأرض إله وفي السماء إله. إذا كانت أهم خاصية للعبادات تتمثل في سقوط العقل فهذا السقوط هو نجاح للعقل هو ارتفاع له وتشريف. لماذا؟ لأن مسائل العبادات تجيء وبها المقدمات والنتائج معاً وبالضرورة يسقط العقل العلمي ولابد أن يسقط فلا أحتاج إليه ولا أحتج به. ومنذ أن تحولت الطائرة إلي مسجد في السماء تهتز وتزلزل ب "لبيك اللهم لبيك" حتي طواف الوداع تحولت أنا إلي طفل في كعبة المعرفة الإنسانية في حاجة إلي حبل سري أتغذي منه ولا أزال مكثت مسجونا في باب الكعبة بعضا من الوقت لا أدري ماذا كنت أقول ولا بماذا كنت أدعو رهبة ورغبة ودهشة ورعشة ولساناً يلهج بالثناء وعينان تفيضان بالمطر وشفتان تتمتمان بالرجاء والجوارح المجروحة تستغيث للشفاء وأفقت وأنا في مقام إبراهيم وعيني علي حجر إسماعيل وطيف محمد ينصرني ويزملني يا له من موقف رائع ومروع ومن الخليل إلي الحبيب والقلب يهتف خاشعا متصدعا من رهبة البيت وخشية رب البيت الذي يطعم من جوع ويؤمن من خوف. ويري الروائي والناقد محمد قطب ان كل إنسان يهفو إلي الأماكن المقدسة ثمة خيط من النور يشدنا إلي الكعبة وإلي قبر الرسول صلي الله عليه وسلم والمسلم أمام العتبات المقدسة يشف ويرقي ويسمو ولقد حججت أكثر من مرة وسجلت في بعض أعمالي القصصية أو الروائية هذا المشهد النوراني الجميل وأنا أطوف حول الكعبة في أشواط تتداخل وتتزاحم وأمد يدي إلي الحجر الأسود وألمسه مباركة به وأصلي أنا وزوجتي وأولادي ونحن في مكة في حجر إسماعيل فنبتهل إلي الله سبحانه وتعالي أن يرزقنا الأمن والأمان والسكينة. وفي روايتي "الطرف الآخر من البيت" تحدثت عن زيارتي بمفردي إلي مسجد الرسول. كان ذلك في أوائل السبعينيات وانهمرت دموعي وارتجف بدني حباً لرسول الله وقد ذكرت في روايتي "رأيتك في المنام" عن بطلة القصة وهي تطوف أشواطها حول الكعبة تتخيل أن سربا من اليمام يرفرف بأجنحة ويصنع لها غمامة تللها ثم يرف عليها ويستكن علي كتفها وكأنه يريد أن يطير بها إلي الأفق. تلك هي الروح الصافية التي تسعي إلي السكينة وإلي السمو ونحن في الحقيقة حين أدينا فرائض الحج لم تكن بالصورة الحالية. كما نقطع المسافة بين الصفا والمروة ونحن نطأ الرمال كان ذلك في أوائل السبعينيات وكان الناس يتدافعون ثم يغتسلون بماء زمزم ويرتوون منه وينطفئ العطش من قطرات الدمع التي تسري مع الدمع آخر مرة حججت كانت في 1994 وكنت في شوق إلي الكعبة لكنني حين قارنت الزمنين لمست تطورات هائلا حيث في مكة تغيرت الأحوال تماما وقدمت العربية السعودية لضيوف الرحمن كل ما يلزم راحتهم. وزيارة الأماكن المقدسة في مكة والمدينة كما يراها د. صابر عبدالدايم هي فرصة للإنسان كي يسمو بمشاعره الذاتية والعامة فوق أغراض الدنيا وفوق المشاعر العادية وقد أنعم الله علي بالحج قرابة عشر مرات حيث كنت أعمل أستاذا في جامعة أم القري والحج كما نعلم مرة واحدة في العمره ما عدا ذلك يعد تطوعا كلما حج الإنسان مرة عاوده الحنين ويشعر انه متلهف لزيارة هذه الأماكن ومن الأشياء التي أتذكرها وأتمني أن تتكرر انني دخلت الكعبة المشرفة وصليت داخلها وهي لحة بالنسبة لي لا توصف ومن الطريف والعجيب انني صليت في الاتجاهات الأربع وكان سقف الكعبة مرفعا ولم أسأل: هل هذا صحيح أو غير صحيح؟ انها من الأشياء التي أتذكرها وأشعر بالوجد والشوق وقد يسر لي أن أصعد إلي غار حراء أغلي منطقة في مكة وأول مكان تلقي فيه رسول الله الوحي ومن باب غار حراء شاهدنا الكعبة رغم بعد المسافة وتمثلت الرسول وهو جالس في الغار هذا المكان الصعب يخلو إلي عزلته الروحية حتي أتاه الوحي وقد ألهمتني هذه الرحلة قصيدة بعنوان "الجبل" حصلت علي الجائزة الأولي في المسابقة الشعرية التي أقامها نادي القصيم علي مستوي الوطن العربي.