كانت رحلة الإسراء والمعراج رحلة الخروج من عهد الغربة والعودة إلى أرض الوطن عروجا بعد هبوط؛ كانت للنبي سلوانا وإلهاما وسموا؛ وللإنسانية عودة حقيقية ارتقى فيها الإنسان الكامل إلى السماء بعد أن هبط منها الإنسان الأول منذ آلاف السنين ... هي إذًا رحلة شوق بعيد وحنين شديد، والإنسان في هذا الحنين منقاد لا مناص له منه، فهو اضطراب في سكون، وخوف في وله، وحاجة لا تنقضي إلا بالبلوغ بل هو إن شئت “حنين الظمآن إلى الماء، والخائف إلى الأمن، والسليم إلى السلامة، والغريق إلى النجاة، والقلق إلى السكون.”[i] وربما اعترض معترض، فقال: إن كان محمد (صلى الله عليه وسلم) قد عاد إلى السماء في رحلة المعراج فقد فعلها من قبل عيسى وإدريس (عليهما السلام) لما ارتفعا إلى السماء؛ وجواب ذلك أن عيسى وإدريس إنما ارتفعا في رحلة خاصة لم يعودا منها ليخبرا أهل الغربة هنا في هذا العالم عن معالم الجغرافيا التي شهدت مولد الإنسان الأول في السماء... بل عادا إلى أرض الوطن وسكنا هناك، فارتاحا إلى مكانهما وتركا هذه المهمة للإنسان الكامل في الزمن الأخير حين أصبح العقل البشري مستعدا لهذا البلاغ الذي وافاه صبح ليلة مباركة.. في تلك الليلة .. كان المهاجر الأعظم في الزمان الأخير آويا إلى بيت ربه، طاويا على حزنه، قد عالج في العامين الماضيين اضطهاد قومه، ووفاة عمه، وفقد زوجه، وأذى ثقيف، وإدبار القبائل، وتعنت القريب، وظلم البعيد.. كانت الدنيا المحدودة تدير ظهرها إلى النور وتولي وجهها صوب الظلمة.. أليس هذا حال غالب الناس في كل العوالم والعصور؟! كانت البشرية الغافلة سادرة في غيها، قد نكفت عن دروب الخير والكمال وجنحت إلى وهاد الركون إلى الطين واتبعت مرذول الخصال سائرة إلى بلاد الأحزان والخسران، والرسول في ذلك يأخذ به الحزن والأسف في حدب المؤمن الكامل الصلاح على البشرية الهالكة: ” فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا“ (القرآن، سورة الكهف، 18: 6).. هنا في زاوية من زوايا مكة؛ حيث يسكن المسجد الحرام كما يسكن الرسول الأمين، كلاهما ساكن منتظر تضطرب به عوالج الأفكار، وكأنما تردد القلب في ولوج لجة النوم أو تردد النوم في الاستيلاء على ممالك الآذان؛ فالنبي مضجع بين النائم واليقظان، إذ أتاه آت فشق ما بين ترقوتيه إلى أسفل بطنه، واستخرج قلبه وأُتي بطست من ذهب مملوءة إيمانا، فغسل قلبه الشريف ثم أعيد ثم أُتي بالبراق وهو دون البغل وفوق الحمار، يضع خطوه عند أقصى طرفه، فحمل عليه إلى بيت المقدس، حيث ربط البراق حيث كان يربط الأنبياء ودخل المسجد فصلى ركعتين ثم جاءه جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاختار اللبن فحمد جبريل اختياره بأنه الفطرة ثم عرج به إلى السماء[ii] في رحلة العودة إلى الوطن... وللعودة تاريخ إنما يبدأ بالإيمان، وللإيمان محل لا محيد عنه، وهو القلب؛ وإذا كانت رحلة العودة هي في حقيقتها صعود بعد هبوط، وصفاء بعد غشاوة، ويقين بعد ريبة، فلا بد لها من استعداد، ولهذا كانت هذه الصورة البديعة الحية، فلم يكن ينقص النبيَ إيمانٌ، ولم يكن ملءُ قلب النبي به بيد الملائكة عن حاجة لله إلى وسائط، كما لم يكن مجيء البراق آية على عجز ”كن“ أو فاقتها إلى الوسائل؛ وأمارة ذلك البراق فهو دون البغل وفوق الحمار إلا إن هذا الحجم الصغير النسبي في عالم النسبية الحبيس لم يحل دون قطعه مسافة مد البصر في عالم المطلق الحر.. هذه الصور جميعها تسير في تصوير مشاهدها وفق ناموس العالم في هذا الزمن النسبي.. هذا الناموس الموضوع لله ابتداء، السائر بأمره تدبيرا وانتهاء في كل تحقق وتعطل، فهو جزء العلم وآية القدرة.. فلا بد للعلم من معلم، وللطب من طبيب، بيد أن هبة العلم والشفاء بيد الله وحده.. لذلك كان هذا المشهد الأول تدريبا للبشرية في عصر الرسالة الأخير أن يركنوا بعد الله إلى العمل بالإيمان وإلى الإيمان بالعمل، وكانت رمزية البراق الصغير المحدود شكلا ولكنه حر الحركة بعيد الخطوة خارق القدرة كما هو العقل المؤمن العامر بالعلم والإيمان؛ وكانت رمزية حضرة النبي لا يراد بها ذاته الشريفة على جهة الخصوص، بل البشر جميعا في حاجتهم إلى العمل للإيمان حتى يبدءوا رحلة العودة وسُلّم العروج إلى الله.. فإذا أردنا اكتشاف الممالك الخفية والعجائب المطوية فلا بد لنا من سفينة يقودها ربان العمل وفق خرائط الإيمان.. وفي ظلال هذا المشهد، تنظر السماء في استخفاف إلى الأرض؛ وتخاطب فؤاد النبي: أيها الأسيف فؤاده، الذي عصفت بقلبه شجون الفكر، وألمت به الهموم الإنسانية الكبرى خوفا على الناس من شرورهم، وشفقة عليهم من تجبرهم، لا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون، فإن كانت الأرض قد ضاقت فالسماء رحيبة، وإن كانت القوى ضعيفة والحيلة قليلة ”أشكوا إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي“، فإن قوتنا قوة عظيم مقتدر لا يعجزه من شيء وتدبيرنا تدبير غالب حكيم ليس يغلبه شيء.. فالملائكة بين يديك، ويد القدرة تحيط بك، والنبيون من ورائك، والسماء فتحت أبوابها من أمامك.. وهنا لك انطلقت الرحلة إلى بيت المقدس قبل أن تعرج إلى السماء، قال تعالى: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" (القرآن، سورة الإسراء، 17: 1).. ولعلك تسأل: ألم يكن أسرع إلى سعادة قلب النبي أن يعرج مباشرة إلى السماء، فلماذا سرت رحلته إلى بيت المقدس؟ أكانت به حاجة إلى غير ربه؟.. لكن هذا السؤال يستبين إذا علمت أن هذه السفارة مرت به على معالم رئيسة غيرت طريق النبوة من الشمال إلى الجنوب، ومن اليهود إلى العرب من أبناء إسماعيل، فكان لا بد لسفير العصر الأخير أن يعلن قيادته سفينة الوحي من هناك في حضور الرسل جميعا، فصلى بهم النبي إماما إقرارا بحمله كلمة الله الخاتمة وسفارة البشارة والنذارة في الزمن الأخير،[iii] وقد عاود هذا الإقرار بالقيادة في السماء مرة أخرى، حيث فتحت إليه السماوات واحدة بعد الأخرى في صحبة جبريل، يرحب به كل نبي في مكانه العلي من السماء، وهو ماض في ذرا السمو، لا تقف به درجة حتى وصل إلى حيث سمع صريف الأقلام.[iv]
[i] رسالة ابن القارح بتحقيق د. عائشة عبد الرحمن، منشورة في مقدمة رسالة الغفران للمعري، (القاهرة: دار المعارف)، ص 22. [ii] البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب المعراج، (ح 3887) وانظر ابن حجر، فتح الباري، 7/241-242؛ وانظر أيضا صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله (المنصورة: دار الإيمان، د.ت.)، 1/396. [iii] راجع أيضا: الشيخ محمد الغزالي، فقه السيرة، (القاهرة: دار الكتب الحديثة، 1965)، ص 137-38. [iv] صحيح مسلم بشرح النووي، 1/396-397.