كلما تقابلتُ مع أحدٍ منهم – المصريين البسطاء – أحسستُ بالخجل من نفسى. فتلك المرأة – على الرغم من رقة حالها – لا تمتم إلا بالحمد والشكر والرضا. وذلك الرجل – على الرغم من ضيق معاشه – تراه مبتسم الوجه، يقول بصدقٍ نابعٍ من القلب: "خليها على الله". إنه صبرٌ مدهش وعجيب على الصعاب والمكاره. لم ألمس صبراً متكلفاً أو متشنجاً لدى هؤلاء الناس، وإنما لمستُ ذلك الصبر الجميل الحكيم التلقائى الذى لا يتلازم إلا مع فطرةٍ سليمةٍ وحية. والأعجب أن هؤلاء البسطاء رقيقى الحال لم يتلقوا تعليماً نظامياً؛ أى لم يدخلوا تلك المدارس والجامعات التى دخلناها. لم يدرسوا النظريات والفلسفات والسياسات والعمليات والرياضيات. ولكن بالرغم من ذلك تجدهم أوسع صدراً فى التعامل مع الصعاب، أسرع حركةً فى إغاثة الملهوف، من أصحاب الشهادات الذين تلقوا تعليماً نظامياً. تُرى هل السبب فى التعليم الذى تلقيناه؟ أقصد فى المنهج التعليمى الذى تربت عقولنا عليه؟ ذلك المنهج البرجماتى البحت الذى غض الطرف – قاصداً – عن الرؤية الكلية الإيمانية، منشغلاً فقط بالرؤى الجزئية التفصيلية. ذلك المنهج الذى لم يربط بين الحقيقة المطلقة الكبرى وبين الحقائق الصغرى. لا أتذكر أبداً – فى أثناء دراستى سواء بالمدرسة أو الجامعة – أن تم الربط بين الخالق والمخلوق؛ بين موجد المادة و المادة ذاتها. كان دائماً التركيز على المخلوق دون خالقه، وكأن هذا المخلوق قد وُجد فى فراغ. كان دائماً التركيز على المادة دون ذكر موجدها، وكأن المادة قد خلقت ذاتها. لم يحدث أبداً أن درسنا سنن الله فى كونه، سواء فى كونه الطبيعى (ما يتعلق بعلوم الطبيعة) أو فى كونه الإنسانى (ما يتعلق بالعلوم الإنسانية). هذا الفصل النكد - الذى قام عليه المنهج التعليمى - لم يفرز إلا عقلية براجماتية ضيقة الأفق؛ تتعامل مع المادة وكأنها هى الحقيقة المطلقة الكبرى. عقلية لا تنظر إلا للمادة، ولا تستطيع أن تنظر فيما وراءها. لقد أفضى هذا المنهج العقيم إلى طمس الفطرة الإنسانية وإخراجها عن مسارها الطبيعى الذى خلقه الله عليها. فكانت النتيجة أن ترى كثيراً من ذوى "الشهادات" و"التعليم العالي" ضيقى الصدر والهمة فى التعامل مع الأزمات لأنهم يرونها من منظورٍ مادى بحت. فقد تبرمجت عقولهم على ذلك؛ تبرمج تفكيرهم على أن يحسبوا كل شىء بالورقة والقلم وكأن الأمر بأيديهم وحدهم، غافلين أن هناك "يداً" أخرى تعمل فى الخفاء. ولا ينجو من تلك البرمجة إلا من رحم ربى....إلا من حاول وجاهد أن يكسر هذا المنهج المريض الناقص، وأن يتحرر منه عقلاً وقلباً ووجداناً وسلوكاً ووجهةً. فى رأيى أن السبب الرئيسى وراء الإيمان الفطرى لأولئك البسطاء رقيقى الحال إنما يتمثل فى عدم تعرضهم لمثل ذلك المنهج المريض الذى صاحبه ذلك الفصل النكد. فظلت فطرتهم سليمة على حالها؛ وبقيت الحقيقة المطلقة الكبرى – حقيقة الله سبحانه وتعالى الذى بيده كل شىء – حية ساطعة واضحة فى أذهانهم وأعماق قلوبهم. الآن يمكنى أن أفهم لماذا يهرع الرجل البسيط "غير المتعلم" إلى إغاثتى إذا وقع بى ضر فى الشارع...بينما لا يهرع إلى نجدتى الرجل النخبوى "المتعلم"...فالأخير يفكر ألف مرة ويحسب حساباته براجماتياً ونفعياً قبل الشروع فى نجدتى، بينما يهب الأول – ملبياً نداء فطرته السليمة – مُقدماً يد العون على قدر ما يستطيع؛ مُعطياً الأولوية للواجب والضمير والحق والمسئولية أمام الله. الشعب يريد إسقاط المنهج التعليمى البراجماتى الشعب يريد منهجاً تعليمياً حضارياً يربط بين السماء والأرض...يربط بين الآخرة والدنيا [email protected]