متشحاً برداء من الورق اليابس ذو اللون الداكن والطعم المر، يتنقل مايسترو مزاج المصريين والضيف الدائم على موائدهم، جامع الأغنياء والفقراء، الكبار والصغار مجمع القلوب وساحر العقول، لا يمكن أن تبدأ يومكم دون حضوره ساخنًا أو باردًا لا يهم فى الخمسينة أو داخل فنجان أو كوب زجاجى بتلقيمة، باكيت أو كشرى أو بحليب جميعها مظاهر لا تهم تختفى بمجرد ارتشاف لذلك المشروب الساحر .. إنه كوب الشاى ذو النكهة المميزة والتلقيمة التى لايضاهى لذتها مشروب قط، ربما ليس الأعلى جودة والمنقى بعناية من أجود أنواع الأشجار، كما كان يتمنى "شين ونج " الإمبراطور الصينى الذى اكتشفه يومًا داخل حديقة قصره ولكنه البطل القومى لمعدة المصريين القادر على تحسين الهضم والمزاج فى آن فاستحق بجداره لقب صاحب المزاج وظابط إيقاع الأدمغة المصرية عبر السنين وبين الأجيال . لم يكن يومًا الشاى الداكن مشروبًا ترفيهيًا أو ثانويًا فى حياة المصريين فبحسب شعبة المواد الغذائية بالغرفة التجارية، تصنف مصر من أوائل الدول العربية استهلاكًا للشاى وتحتل المركز الخامس عالميًا فى استهلاكه، وتقدر قيمة الاستهلاك بحوالى 100 ألف طن سنويًا وهو ما يعادل 3 مليارات جنيه. ورغم كونه لم يحظ بتلك الحالة الوجدانية الحالمة التى تمتعت بها منافسته القهوة السمراء ولم يتغن به الشعراء والمطربين لكنه ظل المشروب الشعبى والعادة الأصيلة للبيوت المصرية على اختلاف طبقاتها وتوزيعها الجغرافى حتى صار رمزًا للتحية بين الأصدقاء فإذا صادفت صديقًا صدفة سرعان ما تدعوه لتناول قدح من الشاى معك باللهجة العامية وتقول بترحاب "تعالى أشرب شاى" ومع التطور فى المفاهيم المصرية ارتبط اسم الشاى بالإكراميات حتى أصبح من المألوف أن تسمع أحدهم يقول لك "الشاى بتاعنا يابيه" والمقصود بها إكراميتنا كطريقة للحصول على الأموال نظير تقديم خدمة أو قضاء طلب . والغريب أن المشروب الرسمى للشعب المصرى لم يرتبط بمواعيد بعينها بل يمكنك تناول الشاى فى الصباح أو بعد وجبه الإفطار العامرة، شاى العصارى، شاى بين الوجبات، بعد الغذاء والعشاء فى المساء، فى جلسات الأصدقاء وبأى وقت آخر إذ لا يمكن للمصريين أن يقولوا للشاى لا "ورغم محاولة الانجليز ترسيخ مفهوم شاى الساعة الخامسة فى فترة الاحتلال لمصر إلا أن عادة شرب الشاى فى أى وقت لدى المصريين كانت كفيلة بإحباط تلك المحاولة . ورغم ارتباط الشاى الوثيق الصلة بالمقاهى وربما يكون المشروب الرسمى والأكثر طلبًا وتداولاً بين روادها إلا أننا لم نسمع عن مقهى تخلى عن مشتق القهوة "مقهى" وأطلق على قهوته اسم مشتق من الشاى تقديرًا لدور ذلك المشروب صاحب أعلى طلب فى قائمة مشاريبه . ورغم أن الشاى أبدا لم يبحث يوما عن البطولة المطلقة فى حياة المصريين إلا أنه ورغمًا عنه كان بطل عناوين الصحف فى الساعات الماضية وقادته الظروف ليكون شاهداً أساسياً لصراعات كان أحد أطرافها كوب الشاى فكان سببًا وإن لم يكن مباشرًا فى تغير مصائرهم، فخلال ال 48 ساعة الماضية وعلى محركات البحث تصدرت كلمة شاى أعلى القائمة وأصبح تريند متداول بعد ارتباطه الوثيق بقضيتين أولاهما حمل اسم "عامل الشاى" وكان صاحب دور محورى فى حكاية مصطفى العامل بحى الرحاب الراقى الذى راح ضحية اشتباك مع آمين شرطة يقال بحسب شهود العيان أنهم اختلفا على ثمن كوب الشاى ليدفع الشاب العشرينى صاحب "نصبة الشاى حياته ثمنا" لشربه شاى . وعلى بعد كيلو مترات من الحى الراقى كان فى انتظار كوب الشاى دورا فى حكاية جديدة هذه المرة كان أصحابها من المثقفين والصحفيين والمحامين والكتاب القابعون على مقاهى وسط البلد ليتم إلقاء القبض عليهم فى حملة قبض استهدفت محيط مقاهى وسط البلد مساء أمس الخميس أثناء جلوسهم على المقهى وشربهم الشاى. لتتحول صفحات مواقع التواصل الاجتماعى إلى مطالبات بالإفراج عن المقبوض عليهم أثناء شربهم الشاى وتخرج هاشتاجات ساخرة عبر تويتر وفى سبوك تنادى بتحرير الشاى ومتناوليه تحت شعار "الحرية للشاى المصرى صديق المقاهى ومحسن المزاج " .