يعجب الإنسان أشد العجب عندما يقرأ قصة إبراهيم عليه السلام مع ابنه إسماعيل عليه السلام كيف يطاوع الابن أباه في أمر لا تتحمله النفس البشرية،فبمجرد أن قصى إبراهيم عليه السلام رؤيته على ابنه-ورؤيا الأنبياء حق- :"فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى "(الصافات:102)،قال الابن:"افْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ"( الصافات:102). فاستجاب الابن للأمر استجابة تامة دون معارضة أو ممانعة أو مجادلة،ولم يصف أباه بأنه ذهب عقله،ولم يقل له إنك إرهابي،كيف تفعل ذلك؟وهل هذا من الدين؟!ولم يتفلسف إسماعيل تفلسف الأبناء الآن في كل ما يؤمرون به،ويستجيب الابن لأمر الذبح،هذا الذبح الذي سيتم بالسكين،فيا ليتها طلقة تطلق فتذهب النفس دون ألم وتوجع،ولكنه السكين الذي سيمر على العنق ،ويرى لمعانه،استجاب الابن لأنه يعرف أن الأمر بيد الله،ليس بيد أبيه.. وإنك لتعجب أيضا لاستجابة إبراهيم وصبره وجلده،فهناك عامل مشترك بين الاثنين وهو الاستسلام لأمر الله،قال تعالى:" فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ "(الصافات:103-106). إننا عندما نستحضر هذا المثال والنموذج في الطاعة والبر للآباء ونقارنه بحال الأبناء العاقين لوالديهم،حيث تطالعنا الأخبار بأن ابنا ألقى بوالديه في دار المسنين ولم برحم ضعفهما،ولم يلتفت إلى وصية الله بهما:"وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (الإسراء:23). والناظر في هذه الآية يجد تعبيرات في غاية الدقة وإشارات تربوية ينبغي أن يلتفت إليها الأبناء علما وتطبيقا،ومن هذه الإشارات: · أن الوصية بالوالدين جاءت من الله فلابد أن توضع موضع الاهتمام،وإلا من عق والديه فقد أهمل وصية الله وخان الأمانة،وارتكب أكبر الكبائر، عبد الرحمن بن أبى بكرة عن أبيه قال كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال « ألا أنبئكم بأكبر الكبائر - ثلاثا - الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور أو قول الزور ». وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متكئا فجلس فمازال يكررها حتى قلنا ليته سكت"([1]) · أن الوصية جاءت للأبناء ولم تأت للوالدين؛لأن الوالدين لا يحتاجان إلى وصية فالرحمة نابعة من قلوبهما والإحسان إلى الأبناء جبلي وفطري. · رعاية الوالدين في حالة الكبر تكون أشد؛وذلك لأن الله بعدما وصي بالإحسان إلى الوالدين خص حالة الكبر مع أن الوصية شاملة لجميع المراحل العمرية،ومنها الكبر،ولكن حالة الكبر هي حالة الضعف التي يحتاج الوالدين فيهما لرعاية خاصة،كما أن في الوصية تذكير للأبناء بحالة الضعف التي كانوا عليها في الصغر،كما أن في الوصية تذكير للأبناء أنهم سيكبرون ويحتاجون لمن يرحم كبرهم وضعفهم. · الوالدين يجب أن يكونا في كبرهما تحت مسمع ومرأى من الأبناء وليس في دار المسنين،حيث لا تذهب إليهما إلى في المناسبات-إذا تذكرتهما-ومن أجل ذلك جاء لفظ عندك في قوله تعالى:" يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ"( الإسراء:23) أي لابد أن يكون الوالدين تحت بصرك وفي بيتك،ترعاهما أشد من رعاية أولادك،وتؤثرهما على نفسك وزوجك ومن تعول،ولك في قصة الرجل الذي رجع من عمله ومعه طعام والديه وأولاده،فوجد والديه قد ناما،فأراد ألا يزعجهما والأبناء يتألمون من شدة الجوع،والابن البار في انتظار استيقاظ والديه وإناء اللبن في يديه حتى طلع الفجر،واستيقظ الوالدان فسقاهما ثم أعطى أولاده وزوجه..وكان ذلك سبب في نجاته وكشف كروباته. · المصاحبة بالمعروف قولا وعملا،فلا يتلفظ الأبناء بأدنى ألفاظ الأذى ولو كلمة(أف)،وهي أقل ما يتركب منه الكلام،ولو كان هناك أقل من كلمة (أف) لذكرها القرآن الكريم،فالتأفف ممنوع فكيف بمن يسب ويلعن والديه،وقد نهى الشرع عن لعن الوالدين،عن ابن عباس -رضى الله عنهما- قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ملعون من سب أباه ملعون من سب أمه ملعون "([2]). بل يتعدى الأمر السب واللعن ليصل للضرب،فيتعارك بعض الأبناء مع والوالدين كتعاركه مع الأعداء بل أشد . وهناك مواقف حياتية تبين حالة العقوق منها أن ابنا حكمت عليه زوجته أن يطرد أمه من شقتها ويلحقها بمكان الخادمة؛كي تخدم الزوجة وأولادها مع خادمة البيت،تخدم لتحصل على اللقمة المتبقية من الزوجة والأولاد!!بل وصل الأمر أن استكثرت الزوجة مكث الأم مع الخادمة،فألقت بمتاعها خارج البيت،وأصبحت الأم لحفها السماء وفرشها التراب،يضرب البرد العظم الضعيف ،أصبح هذا هو حال الأم التي حملت وهن على وهن وحوته وحمته بلحمها ودمها،وجعلت ضلوعها سياجا له من كل ما يؤذيه ويضره،وضعت وربت وسهرت...بل نسمع ونشاهد أشد من ذلك من يقتل والديه من أجل تعجيل الميراث..إلى آخر هذه العقوق..وقد تناسى هؤلاء أو أنساهم شياطين الأنس والجن أنه سيكبرون وسيحدث معهم ما فعلوه كما تدين تدان،والأيام دول. لقد نسي هؤلاء أن بر الوالدين يعد جهادا في سبيل الله ،فعن معاوية السلمي قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله إني أريد الجهاد في سبيل الله فقال : " هل أمك حية " قلت : نعم قال : " ألزم رجلها فثم الجنة " وقال لرجل آخر مثله : " فالزمها فإن الجنة تحت رجليها "([3]).
[1] ) متفق عليه. [2] ) انظر حديث رقم : 5891 في صحيح الجامع. [3] ) انظر حديث رقم : 1248 في صحيح الجامع.