الدعوة العفوية التي وردت في خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي الأخير ، والذي أثار ضجة ، والخاصة بالتبرع لمصر ، أو بتعبيره الدارج "تصبح على مصر بجنيه" ، شغلت الناس ، واستقطبت ردود أفعال متباينة بين مؤيدي السيسي ومعارضيه ، المؤيدون رأوها دعوة محترمة ومخلصة وأنه لا وجه للسخرية منها ، والمعارضون رأوا أنها شهادة إفلاس وأن الدول لا تبنى بالتبرعات ، كما أنه من الواضح أن لغة العواطف التي استخدمها الرئيس كثيرا لم تعد آسرة ولا تعطي مردودا مقنعا كما كان الحال في بداية عهده ، وهو ما بدا في الاستجابة المتواضعة جدا لتلك الدعوة أيضا ، حيث ما أعلن حتى الآن بعد ثلاثة أيام أنها أثمرت عن حوالي ثلاثة ملايين جنيه ، وهو ما يعني أن أقل من أربعة في المائة من المصريين استجابوا لنداء رئيسهم ، بل إن هذا الرقم يمكن لأي جمعية خيرية يرعاها فنان أو رجل أعمال معروف أن تجمع أكثر منه في يوم واحد . المشكلة الرئيسية في مثل هذه الدعوات للتبرع من أجل الوطن أنها لا تتأسس على واقع منطقي أو عادل ، بل كل ما حول الوطن والمواطن يعطي الانطباع بالبذخ السلطوي الذي يعبر عن دولة امبراطورية وليست دولة تعاني وتحتاج إلى تبرع الفقراء والبسطاء ولو بجنيه ، والحكومات التي تتجه إلى هذا النوع من الخطاب السياسي يكون عنوانها البساطة والتواضع والتقشف في جميع أجهزة الدولة ومؤسساتها من أول رئيس الجمهورية وحتى أصغر ضابط أو مسئول ، وقد رأينا جميعا كيف كان رئيس الجمهورية في إحدى دول أمريكا اللاتينية يستخدم سيارة صغيرة وقديمة جدا من طراز فولكس فاجن التي تم تصميمها في زمن هتلر ، ويتحرك بها ويصر على عدم استخدام غيرها ، وكانت صوره تتناقلها وكالات الأنباء بكل إعجاب وانبهار ، بينما نحن هنا نرى المواكب الرئاسية أو حتى لأي وزير أو مسئول رفيع وحجم البهرجة فيها والبغددة ، كما نرى عشرات السفرات للرئيس في مؤتمرات ولقاءات في جميع أرجاء الكرة الأرضية بصورة غير مسبوقة ممن سبقوه ، فحتى تكون مقنعا للشعب بالتبرع والاقتطاع من قوت يومه من أجل مساعدة البلد وإنقاذ الوطن فعليك أن تكون قدوة وأن تكون السلطة بكاملها قدوة لهذا السلوك . الأمر الآخر أن العدالة الاجتماعية رغم أنها من أركان ثورة يناير التي منحت المشروعية لكل الأوضاع القائمة الآن ، لم يتحقق منها شيء تقريبا ، وهناك تمييز فئوي واضح وصارخ ، فبينما يتم التقتير على أساتذة الجامعات والأطباء والمهنيين بكل أطيافهم والجهاز الإداري الذي يحمل كيان الدولة بكامله ، نجد السخاء المتتالي والمتنامي لقطاعات مثل الشرطة والقضاء والجيش ، كما نرى تخصيص فرق حراسة على حساب الدولة لشخصيات سياسية أو إعلامية أو غيرها بدون أي حيثية رسمية أو قيمة تستحق ، لمجرد أنها من الموالين للسلطة ، والكثير من تلك المظاهر الباذخة والصارخة ، وهو ما جعل ملايين المواطنين يشعرون بأن الدولة تدير لهم ظهرها وتجامل مؤسسات الحماية والتمكين للسلطة ، وتنفق في تلك القطاعات إنفاق من لا يعيش الفاقة ولا يخشى الفقر ، بينما تتحدث إلى بقية المصريين بوجه الفقير العاجز والذي يطلب الصدقة والتبرع من أجل مصر ، فهل يتبرع الفقراء والبسطاء والكادحون من أجل زيادة رواتب فئات بعينها مدللة . والحقيقة أن مسألة "صبحوا على مصر ولو بجنيه" ليست دعوة جديدة أو استثنائية في المجتمع المصري ، لأن المصريين يمارسونها تلقائيا وبشكل يومي دون دعوة من السلطة أو حتى مراجعة الدولة ، وهناك شبكات تكافل اجتماعي في عموم مصر من أقصاها إلى أقصاها تشمل ملايين البسطاء وأسرهم ، يتقاضى بعضهم معاشا أو راتبا دون المائة جنيه أو أكثر قليلا ، وهو لا يكفيه لكي يطعم أبناءه خبزا فقط أو حتى يسترهم في غرفة بالإيجار أو توفير حبة دواء ، وهؤلاء الملايين الذين ينظر الناس إليهم على أن بقاءهم على وجه الحياة معجزة بهذا المبلغ التافه والبسيط ، هم يعيشون على شبكة تكافل اجتماعي وإنساني غير مرئية ، يقوم بها ملايين المصريين سواء كانوا من الميسورين أو من الطبقة الوسطى ، بنداء إنساني أو نداء ديني ، يكفلون يتامى ويسترون أرامل ويرعون أسرا فقيرة أو يبنون مستشفى خيريا أو يبنون مدرسة أو معهدا أزهريا ، فضلا عن آلاف الجمعيات الأهلية المشهرة المعنية بهذا النوع من النشاط الاجتماعي ، فالمصريون أسخياء جدا وهم "يصبحون" على الوطن وناسه ، عندما يثقون في أن مالهم يصل إلى مستحقيه وأن الوطن وناسه يستفيدون منه ، وتكون هناك شفافية كاملة في معرفة مصارف هذا المال . باختصار ، دعوة السيسي من أجل أن "نصبح على مصر" هي الأخرى ، فكرة لا يمكن أن تنجح أو تثمر إلا في منظومة إنسانية وديمقراطية يشعر الإنسان فيها بالكرامة والحرية والعدالة بكل أبعادها ، بما فيها العدالة الاجتماعية ، وتكون السلطة فيها قدوة لشعبها في التضحية والمعاناة والتقشف .