"غزا نبى من الأنبياء، فقال لقومه: لا يَتْبَعْنى رجلٌ مَلَكَ بُضْعَ امرَأَةٍ وهو يريدُ أن يبنى بها، ولا أحدٌ بنى بُيُوتاً، ولم يرْفَعْ سُقُوفَهَا، ولا آخر اشترى غنماً أو خَلِفَاتٍ أى النوق الحوامل أو الغنم الحوامل وهو ينتظرُ وِلادَهَا!. فغزا فدنا من القريةِ صلاة العصرِ أو قريباً من ذلك، فقال للشمس: إنكِ مأمورةٌ، وأنا مأمورٌ، اللهم احْبِسْهَا عَلَيْنَا، فَحُبِسَتْ حتى فتحَ اللهُ عَلَيْهِم. فجمَعَ الغنائمَ، فجاءَتْ يعنى النارَ لِتَأْكُلَهَا فلم تَطْعَمْهَا، فقال: إن فيكُمْ غُلُولاً، فلْيُبايعنى من كلِّ قبيلةٍ رجلٌ، فلزقت يدُ رجلٍ بيده!. فقال: فيكم الغُلُولُ فلْيُبايعنى قبيلَتُكَ!. فلزقت يدُ رجلين أو ثلاثةٍ بيده، فقال: فيكم الغُلُول. فجاءوا برأس بقرةٍ من الذهب، فوضعوها فجاءت النارُ فأَكَلَتْهَا. ثم أحلَّ اللهُ لنا الغنائمَ، رأى ضعفنا وعجزنا، فأحلها لنا". [رواه البخارى] يقص علينا صلى الله عليه وسلم ذكراً من قصة النبى يوشع بن نون؛ ذلك الفتى الذى رافق موسى عليه السلام أثناء رحلته مع الخضر، وقد استخلفه على بنى إسرائيل من بعده، وتم على يديه فتح الأرض المقدسة. وبتدبرنا لهذه الغزوة، نجد أن لها بعدين: البعد الأول، الظاهر الذى نستلهم منه الرسائل القريبة؛ مثل: (أ)أهمية قراءة التاريخ التى تبين أن أمماً قبلنا قد جاهدت وغزت فى سبيل الله. (ب)أن نبى الله المجاهد قد حرص قبل انطلاقه لفتح المدينة، على التخلص من كل عوامل الهزيمة؛ مثل مشغولى القلوب بأى أمور دنيوية؛ كالزاوج، والبناء، والتجارة. (ج)فقه هذا القائد للسنن الإلهية الكونية، وحرصه على المحافظة على ربانية وسائله أثناء مسيرته، وذلك بشعوره بجنديته وجندية كل الوجود بما فيه الظواهر الكونية؛ كالشمس، فى تحقيق مراده سبحانه. (د)استمراره على سلوكه بعد النصر، بالحرص على تنقية جيشه، من عوامل الضعف الأخرى، والتى تظهر فى مرحلة النصر، وأهمها وجود الضعفاء أمام الماديات. أما البعد الآخر؛ والذى نستلهم منه الرسالة التربوية العامة؛ وهى الالتزام بمبدأ تربوى وإدارى؛ وهو المتابعة والتقييم العميق لكل مرحلة، والتقويم والتصحيح لكل ظواهر الخلل المستحدثة. أدب الوقفات: وهذا الباب يُعرف بأدب الوقفات، أو المراجعات أو ما يسمونه بالنقد الذاتى، والتفتيش عن مواطن الخلل، فى كل مرحلة من مراحل أى عمل أو خطة. وهو الباب الذى لم نزل نفتقده كثيراً، أفراداً ومؤسسات؛ وذلك إما عن عدم فقه لأهميته، أو لعدم فقه طبيعة ممارسته، أو التزاماً بالقناعة المخدرة أننا بخير، وليس فى الإمكان أبدع مما كان، أو الأغرب وهو أن يكون عن تجاهل وتعمد، بدعوى حفظ الصف، ومراعاة المشاعر والنفوس، أو وهو الأخطر؛ وهو دعوى عدم فتح المجال للطاعنين من الخارج، وغلق فرص التشفى، والتشكيك!. فكيف تجلت وقفات القرآن الكريم؟: على المستوى الجماعى: أولاً: حالة النصر، فكان التجاوز عن حالة الفرحة العارمة، والتركيز على مواطن الخلل؛ مثل: (أ)الأمراض القلبية: "فاتقوا اللهَ وأصلحوا ذات بينكم".[الأنفال1] (ب)الركون إلى الأسباب: "وما النصر إلا من عند الله". [الأنفال10] ثانياً: حالة الانحسار، كما فى مصيبة أحد: (أ)اقرأوا التاريخ: "فسيروا فى الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين". [آل عمران137] (ب)الهزيمة تعود إلى عوامل داخلية: "قل هو من عند أنفسكم". [آل عمران 165] على المستوى الفردى: 1-تصحيح المفاهيم، وتقييم الأشخاص والأحداث والغايات، كانت آيات (سورة عبس)، تقف لتعاتب وتقيِّم مجرد انشغاله صلى الله عليه وسلم عن ابن مكتوم رضى الله عنه. 2-ضرورة الحفاظ على الجبهة الداخلية للداعية: "يا أيها النبى لِمَ تُحرِّمُ ما أحلَّ اللهُ لك، تبتغى مرضات أزواجك". [التحريم 1] كيف نبدأ؟!: وحتى لا يكون مجرد حالة موسمية، أو رد فعل لأحداث وظروف معينة؛ فإن البداية: 1-القناعة الفردية والمؤسسية بأهميته. 2-اختيار آلية محددة لممارسته. 3-الاستمرارية. 4-التجديد المستمر لتطوير لآلياتها. 5-التصحيح الفورى لمواطن الخلل. 6-التقدير والدعم الإيجابى الفورى لأصحاب البذل المميز والابتكار. وبعد؛ فإذا اقتنع الفرد والمؤسسة بأهمية مبدأ الوقفات؛ فستترسخ على المستوى الفردى والجماعى والمؤسسى القناعة بأن الوقفات تقيِّم وترشد الخطوات. د. حمدى شعيب [email protected]