تحولت سوريا في العام الأخير إلى أرض مشاع مستباحة بين مختلف الدول والجماعات والأحزاب والميليشيات ، وأصبحت فكرة "السيادة" فيها مجرد عبارات لغوية لا صلة لها بالواقع ، حيث تقاتل في سوريا اليوم ميليشيات لبنانية ممثلة في تنظيم حزب الله الذي يدرك أنه يدافع عن "طاغية" لا صلة له بالديمقراطية أو الحريات أو احترام كرامة الإنسان ، ولكن حسابات المصالح الطائفية البحتة حركت حزب الله لاحتلال جزء من الأراضي السورية وممارسة أعمال قتل وحصار وحشية لمدن وقرى سوريا السنية ، أيضا هناك ميليشيات عراقية مثل عصائب أهل الحق وهي مجموعات وحشية طائفية مغلقة ، حشدت عراقيين شيعة تحت دعوى حماية المراقد المقدسة في سوريا كمرقد السيدة زينب ، وكذلك هناك ميليشيات شيعية أفغانية استأجرتها إيران من بين اللاجئين الأفغان الشيعة الهزارة على أراضيها ، وهناك مقاتلون شيعة من مناطق متعددة أقل حجما ، وهناك بالمقابل مقاتلون سنة من مختلف أنحاء العالم انضووا تحت جماعات إسلامية مثل داعش والنصرة وهم أكثر من أضروا بثورة الشعب السوري ، وخاصة تنظيم داعش صاحب السمعة الوحشية عالميا ، كذلك هناك جماعات وأحزاب سورية مثل أحرار الشام وجيش الإسلام والجيش السوري الحر وغير ذلك من المعارضة المعتدلة ، ثم دخل بعد ذلك دول بقوات نظامية ، بدأتها إيران من خلال قوات الحرس الثوري الإيراني ، ثم دخلت روسيا بإنشاء قواعد جوية ثم قواعد عسكرية عامة في أكثر من مدينة ، ثم دخل الأمريكيون حيث أنشأوا قاعدة عسكرية في شمال سوريا . رغم كل تلك النيران والحراك ، إلا أن تركيا ظلت متمسكة بمبدأ عدم الزج بقواتها في سوريا ، باعتبار أنها جزء من حلف الناتو وحركتها العسكرية مرتبطة باستراتيجيات الحلف ، وإن كانت تدعم بطبيعة الحال الجيش السوري الحر والفصائل المعتدلة في الثورة ببعض السلاح ، إلا أن تطورات الأحداث الأخيرة ، خاصة في الشمال السوري أصبحت تضغط بقوة على صانع القرار التركي لكي يتحرك ولو منفردا ، لأن الأمن القومي التركي أصبح مهددا في صميمه ، ليس فقط بسبب موجة التفجيرات الإرهابية التي تضرب في اسطنبول وأنقرة ، ولا بمواجهة ميليشيات حزب العمال الكردستاني في جنوب شرق البلاد ، وإنما أيضا لأن الأحداث كشفت عن تواطؤ أمريكي روسي خطير لصناعة بؤرة قومية في خاصرة تركيا تشكل دولة كردية على جزء من الأراضي السورية وهو ما يؤدي إلى خلط الأوراق في جنوبتركيا بكامله ، والغارات الجوية الروسية التي تستهدف المدنيين بالأساس ، تعمل على تنفيذ مخطط تهجير عرقي وإخلاء لمدن ومناطق جغرافية واسعة لكي تتيح للأكراد السوريين اقتطاع المزيد من الأراضي لهذا الغرض ، وقوات الأكراد الممثلة في ميليشيات حزب الاتحاد الكردي تتلقى دعما مزدوجا الآن ، أسلحة وذخائر وتدريبات من الأمريكيين مباشرة ، وتغطية جوية مكثفة وعنيفة من قبل الطائرات الروسية ، وهذا ساعدها بالفعل على تحقيق نجاحات عدة واجتياح مناطق للمعارضة السورية المعتدلة ، بينما توقفت تماما عن خوض أي معارك مع تنظيم داعش ، كما أن العدوان الروسي العنيف للغاية بالطيران مكن قوات النظام وميليشيات حزب الله وإيران على التقدم في ريف حلب ، والذي يمثل سقوطه إن حدث ضربة خطيرة لقوى الثورة السورية ، وتقطع الطريق بين حلب وبين تركيا . المعارضة السورية وأنصارها يضغطون على تركيا من أجل الحصول على سلاح نوعي وخاصة مضادات الطيران ، لتحجيم الطيران الروسي الذي يتبختر تماما في سماء سوريا الآن بدون أي مقاومة أو تهديد ، كأنه في نزهة يومية ، ويضرب المدارس والمساجد والمستشفيات والأطفال والنساء ويحرق كل شيء ، ولكن الأمريكان يضعون "فيتو" على وصول هذا السلاح للثوار ، كما ترفض واشنطن فكرة تركيا وألمانيا وفرنسا بفرض منطقة حظر طيران في شمال سوريا لحماية اللاجئين ووقف موجاتهم الفارة من الغارات الروسية وطيران النظام ، ولكن واشنطن أيضا ترفض الفكرة وتقول أنه لم يأت أوانها ، وباختصار ، وضح أن هناك تنسيقا بين واشنطن وموسكو لتنفيذ مخططات خطيرة للغاية في سورياوتركيا وإعادة تقسيم المنطقة . في الحادث الإرهابي الأخير الذي فجر حافلات لعسكريين أتراك في العاصمة وقتل قرابة ثلاثين عسكريا ، أعلنت تركيا وصولها إلى الفاعلين ، وأن الفاعل الأساس فيه هو عضو بحزب الاتحاد الديمقراطي السوري ، ثم أضاف رئيس الوزراء داوود أوغلو أن هذا الحزب هو مجرد بيدق بيد نظام بشار ، وهذا يعني في الحساب السياسي إعلان تمهيدي لعملية عسكرية باعتبارها ردا على اعتداءات ، وهناك حشود عسكرية تتزايد الآن على الحدود التركية السورية ، فهل قررت تركيا أخيرا أن تكون لاعبا جديدا مباشرا في الملف السوري ، وكيف سيكون رد فعل القوات الروسية ، وهل سيتدخل الناتو إذا وقعت أي مواجهات ولو محدودة بين تركياوروسيا ، هذا ما ستكشف عنه الأيام القليلة المقبلة ، ولكن بكل تأكيد ، المشرق العربي مقبل على مرحلة تاريخية جديدة ، قد تغير وجهه وموازينه تغييرا كاملا .